دبلوماسية المغرب الروحية في غرب أفريقيا.. دواعي التوظيف
كتب محمد ماموني العلوي في صحيفة العرب.
دبلوماسية المغرب الروحية تنطلق من إطار متوسطي جيوسياسي باتجاه غرب أفريقيا في حركة نرى فيها انتشارا إستراتيجيا لتأمين الحدود البعيدة وتوسيع دوائر الاشتغال الأمني والسياسي ومراقبة بؤر التوتر.
الأساس الذي يوجه بوصلة الدولة المغربية في تحركها المكثف لمحاربة التطرف والظلامية داخل الحدود وفي امتداداتها الحيوية عبر الصحراء التي انتشر من خلالها الإسلام المعتدل نحو دول غرب أفريقيا مبني على إستراتيجية تجمع بين قيم الحداثة، دون تفريط في دعامات الهوية المغربية ومنها مؤسسة إمارة المؤمنين، وسلطة تتولى حماية الدين وتوطد العلاقات الروحية مع جلّ الدول الأفريقية.
اعتمادا على شرعية إمارة المؤمنين التي تجذرت في المغرب على مدى قرون طويلة وتمت دسترتها كعامل قوة واستقرار، نرى أن المحدد الروحي الذي ترتكز عليه دبلوماسية المملكة داخل عمقها الأفريقي تاريخي في أصله، ومتجدد عبر مجالاته الحيوية سياسيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا، وذلك باعتباره عنصر جذب للاستقرار وضامنا للأمن في أفريقيا عامة وغربها على وجه الخصوص، وهو ما ترجمه الحضور الشعبي والرسمي عند افتتاح مسجد محمد السادس بكوناكري عاصمة غينيا، على مساحة هكتار واحد بحي إنتا، بحضور السلطتين المغربية والغينية، ويتسع المسجد لأكثر من 3000 مصلّ، ويتضمن قاعة مؤتمرات ومكتبة ومدرسة قرآنية ومجمعا تجاريا وقاعة اجتماعات ومكاتب وسكنا.
المبادرة والاهتمام المغربي المتزايد بهذا البلد على غرار دول غرب أفريقيا، جعلت الوزير الأول (رئيس الحكومة) باه أوري، يعبّر عن امتنانه لملك المغرب، مشيرا إلى الروابط الممتدة منذ قرون بين المغرب وغينيا، قائلا إن “هذا المسجد الذي بناه أصدقاؤنا من المغرب بمبادرة من الملك محمد السادس، يرمز إلى التضامن وصلابة الروابط بين المغرب وغينيا”.
دبلوماسية المغرب الروحية تنطلق من الإطار المتوسطي جيوسياسيا نحو غرب أفريقيا، في حركة نرى فيها انتشارا إستراتيجيا لتأمين الحدود البعيدة وتوسيع دوائر الاشتغال الأمني والسياسي ومراقبة بؤر التوتر والتحالفات الصديقة والمهددة معاً.
ليس خافيا أن النظامين الجزائري والإيراني يحاولان التقرب من المنطقة سياسيا باستخدام أوراق بوليساريو وجماعة الموقعين بالدم إضافة إلى التنظيم الهجين والغامض لجماعة “أنصارالدين”. الجزائر وطهران قلقتان من فعالية التحرك المغربي وخطواته الدبلوماسية والروحية التي دشنها العاهل المغربي في غرب أفريقيا، علما أن الامتياز المغربي في مكافحة الإرهاب والتطرف ينطلق من الداخل، وذلك بنهج سياسة أمنية استباقية أسقطت العديد من الخلايا النائمة.
المغرب حقق نفوذا روحيا مهمّا في غرب أفريقيا مساهمة منه في توفير الأمن والاستقرار الغائبين عن منطقة الساحل والصحراء وجزء من شمال أفريقيا التي تتقاذفها صراعات يتقدمها ما هو ديني. وبهذا يكون المغرب قد انتهج سياسة متقدمة في تدبير الشأن الديني، على مستوى أماكن العبادة والتعليم وتكوين الأئمة والتعامل مع مجال الفتوى المحفوظ للمجلس الأعلى الذي يترأسه الملك درءاً للفوضى في هذا الباب الدقيق والخطير.
يرتكز العمل على تحقيق الأمن الروحي في كل من مالي ودول غرب أفريقيا على أساس الإسلام السني المعتدل، كدرس في الاستقرار والتسامح الديني ومحاصرة للتطرف في الهوامش غير المؤثرة سياسيا واجتماعيا، وهي نقطة محورية في الدبلوماسية الروحية للمملكة تجاه هذه الدول، حيث أن المغرب يعد بلدا رائدا في إحقاق الأمن الروحي وقبلة لتكوين العلماء الأفارقة على مدى قرون، ولازال هذا التوجه في تكوين الطلاب الأفارقة داخل الجامعات والمعاهد المغربية ساريا حتى يومنا هذا، إضافة إلى إنشاء المساجد وإقامة المستشفيات وتوزيع آلاف النسخ من المصحف المحمدي في تلك الدول.
المجالات مفتوحة أمام علماء الدول الأفريقية للنهل مما تقدمه المملكة علما وقيما وتاريخا وداخل المجالس العلمية، ونجدهم حاضرين في الدروس الحسنية الرمضانية التي يرأسها أمير المؤمنين. في هذا الإطار وقعت الرباط مع عدد من الدول الأفريقية اتفاقيات تتولى بموجبها المعاهد الدينية المغربية تكوين الأئمة إضافة إلى دعم الإسلام المعتدل الصوفي عبر الزوايا الناشطة في تلك البلدان.
هذا التوظيف الذكي للنفوذ الروحي للمملكة المغربية في غرب أفريقيا ينسجم مع أدوارها الفعالة وحضورها الإقليمي والدولي في محاربة كل أشكال التطرف والإرهاب، وتجدد هذا المعطى في أكثر من مناسبة، حيث ربط العاهل المغربي البعد الأمني لمحاربة آفة الإرهاب بمقاربة متوازنة تتجلى في أن السياسات الأمنية الناجحة، والعمليات الاستباقية الناجعة، رهينة بمساهمة المواطن، وشعوره بدوره البناء في استتباب الأمن والطمأنينة.
تاريخ المغرب المشترك دينيا مع غرب أفريقيا بحكم مرجعيته الدينية الضاربة في عمق الحضارة الإسلامية وموقعه الجيوستراتيجي، يؤهله دون منازع لتحقيق الأمن الروحي والاقتصادي بدول الساحل والصحراء، من أجل الحد من تيارات التشدد والأيديولوجيات المفككة لكل القيم الروحية الجامعة. ولم يكتف المغرب بما هو روحي ديني بل تعداه إلى كل من له علاقة بالمجالات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والاستثمارية، فقدم لهذه الدولة فرصة الانضمام إلى المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس للاستفادة من واجهة بحرية تفتقدها كل من بوركينا فاسو والنيجر وتشاد ومالي، لاستكمال ما هو ديني بما هو مادي، وهي خطوة حضارية وإجابة واقعية على أسئلة وتحديات العصر.
الزيارة الطويلة التي قام بها الملك محمد السادس قبل سنوات لعدد من دول أفريقيا، منها السنغال ومالي والكوت ديفوار وغينيا والغابون حيث استقبل الملك شيوخ الطرق الصوفية التيجانية والقادرية، جاءت استكمالا لخطوات عملية داعمة لأمن واستقرار غرب أفريقيا عبر دبلوماسية روحية تستقي نموذجاً دينياً وسطياً معتدلاً، واستشرافا لمستقبل أفريقي واعد تنمويا وديمقراطيا تتوسطه عملية مستمرة تهدف إلى تقوية بنية المجتمع وتنميته وتحريره من التبعية وتحصينه من السقوط في أحضان الإرهاب والفوضى بتشجيع ودعم من ملالي إيران.
هدف الدبلوماسية الروحية للمملكة حفظ الدين في أفريقيا، موازاة مع تحصين المكتسبات والمصالح المشتركة بين المغرب ودول أفريقيا، وهو ما أكده أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب، عندما قال إن “أمير المؤمنين محمد السادس حرص على أن يسهم في حفظ الدين بأفريقيا” مؤكدا مواصلة المملكة المغربية الرهان على الإرث الديني المشترك، في ظل إستراتيجية دينية إقليمية تعزز التعاون أفريقيا في المجال الديني، كشرط غير معلن لخدمة التعاون في أوجه أخرى، سياسية واقتصادية وجيوسياسية.