رأي

“داعش” وترتيب أولويات إيران

كتب بيار عقيقي في العربي الجديد.

ما الذي تعنيه عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من البوابة الإيرانية، بتبنّيه الهجوم على محيط قبر قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في مدينة كرمان، الأربعاء الماضي؟ تعني أمرين أساسيين: أنه أوجد قاعدة قوية في الداخل الإيراني، وأنه “دشّن” عودته بهجومٍ كبير في وسط يُفترض أن يكون صلباً أمنياً. في الحالتين، تبدو طهران وكأنها الأكثر تأثّراً بهجماته في السنوات الأخيرة، في وقتٍ تراجع التنظيم بدرجة كبيرة في سورية والعراق، رغم قوته النسبية في أفغانستان. وتأثر إيران بهذا الهجوم لن يدفعها إلى تجاهله، لاعتباراتٍ عدّة، بدءاً من أهمية سليماني، وصولاً إلى القلق من تضعضع الساحة الداخلية. مع العلم أن الإيرانيين الذين عملوا على توسيع انتشارهم العسكري في بلدان الجوار العربي، خصوصاً في العراق وسورية، من دون الاكتراث للضربات الإسرائيلية في البلد الثاني، باتوا يدركون أن الخطر في الداخل مختلفٌ عن الأخطار الخارجية. ومن المفترض أن يحفّز ذلك السلطات على إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية، قبل أشهر من انتخاباتٍ تشريعيةٍ منتظرة.

في العقل الإيراني، وهو ليس مرتبطاً بالثورة الإسلامية، بل بتاريخ إيران كأمة فارسية، إن الاضطرابات الداخلية تُضعف موقفهم الإقليمي والدولي، رغم أن الجغرافيا السياسية تجعل تلك البلاد جسر عبور طبيعياً بين شرق آسيا وغربها، وبين الخليج وبحر قزوين. وأي توتّر في هذه النقطة سيدفع الإيرانيين إلى الغرق في أزمة طويلة، عكس التباهي بالقوّة العسكرية بحراً وبرّاً وجواً.

الأسوأ لطهران أن مثل هذا الهجوم، وعلى رمزيّته في حصوله في الذكرى الرابعة لاغتيال سليماني، وقع في توقيتٍ سياسي ـ عسكري بالغ الأهمية في الشرق الأوسط، انطلاقاً من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة. إيران، كأي دولة إقليمية أخرى وبنسبة متفاوتة، منغمسة في هذا الصراع، عبر حلفائها من اليمن والعراق وسورية ولبنان، ما يضعها في حالة تأهّب مع استمرارية العدوان. تُصبح كل القرارات ثانوية في أزمنة الحروب، إلا في الحالات الاستثنائية، التي تدفع بلداً معيّناً إلى التراجع حماية للداخل.

كان هجوم “داعش” مباغتاً في الموقع والزمان، عكس ما أوردته تقارير أوروبية وأميركية، أن التنظيم سيستغلّ العدوان على غزّة لضرب المصالح الغربية من جهة، ولمهاجمة دور عبادة ومراكز يهودية وإسرائيلية في العالم. حتى أن فرنسا عزّزت أمن البلاد عشية رأس السنة 2023 ـ 2024، خشية من عملية ما للتنظيم. بالنسبة للإيرانيين، سيكشف الاكتفاء باتهام الولايات المتحدة وإسرائيل بالهجوم، على الرغم من تبنّي “داعش” له، عن وهن عميق في البنية الأمنية، أكثر عمقاً من إسقاط طائرة أوكرانية بالخطأ بعد اغتيال سليماني. ولهذا الضعف تراكماتٌ غير بعيدة، مثل اختراق الموساد إيران، والحصول على الأرشيف النووي، فضلاً عن تنظيم عمليات اغتيال علماء وشخصيات إيرانيين في العاصمة وغيرها، والهجمات التي طاولت مراكز ومصانع عدة.

هنا، تتآكل عباراتٌ مثل “الصبر الاستراتيجي” و”الردّ في الزمان والمكان المناسبيْن” لكثرة استهلاكها، فالتاريخ، على بطئه، أسرع من كل ثانية تمرّ في يومياتنا. وأي ردّ يتأخّر، يُصبح فارغاً من معناه. الشرق الأوسط مسكونٌ في الشوارع، ورد الفعل يحصل في لحظته التاريخية لا بعد أشهر وسنوات. غير ذلك يبقى ضعفاً أو نقصاً في القدرة التقنية على الردّ، والأجيال الآتية لن تثأر من جيل الأجداد. يكفي الاتعاظ من نشاط كثيرين من يهود الغرب الذين يهاجمون إسرائيل بسب إبادتها الفلسطينيين، رغم أن أسلاف هؤلاء، ومن هم في الداخل الإسرائيلي، قد يكونون من الناجين من المحرقة الألمانية النازية. ما جمعته المحرقة فرّقته غزّة.

لم يهتزّ النظام الإيراني بالتظاهرات المعيشية، ولا حين قُتلت مهسا أميني، بالقدر الذي أضحى في معركته مع “داعش” في حرب وجود، لتأثيرها على كل أوجه الحكم في طهران. والمكابرة على هذه الأخطار ستشرّع الباب أمام ثورة بركانٍ غير محسوب النتائج.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى