شؤون دولية

خيارات أوروبية لدعم أوكرانيا في عهد ترامب

شكل انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب «فرصاً وتحديات» للكثيرين..
الفرص تتجسد في مساعيه الواضحة لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، ووقف الحروب المستمرة في الشرق الأوسط، لكن توجهات وسياسات الرئيس الأمريكي المنتخب تشكل تحدياً لأطراف أخرى في مقدمتها أوروبا، حيث ينوي الرئيس ترامب وقف إرسال السلاح والذخيرة والأموال إلى أوكرانيا ضمن رؤيته لوقف الحرب بعد أن أسهمت واشنطن بنحو 110 مليارات دولار حتى إبريل الماضي من المجهود الحربي والاقتصادي للحكومة الأوكرانية، بينما استطاع الأوروبيون ومعهم بعض الدول الأخرى مثل اليابان وأستراليا ونيوزيلندا توفير نحو 170 مليار دولار لأوكرانيا ضمن تحالف يضم نحو 50 دولة ظل يقدم كافة أشكال الدعم والمساندة لأوكرانيا طوال 3 سنوات من الحرب التي اندلعت في 24 فبراير 2022، ولضمان صمود أوكرانيا أطول فترة ممكنة، اتفق الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن مع الأوروبيين على ضرورة تقديم «دعم إضافي» للجيش والدولة الأوكرانية عبر تدبير نحو 50 مليار دولار قبل رحيله عن البيت الأبيض في 20 يناير الجاري بحيث تدفع الولايات المتحدة نحو 20 مليار دولار، بينما تعهد الاتحاد الأوروبي بتدبير 30 مليار دولار تأتي أغلبيتها من عائدات الأموال الروسية المجمدة في الغرب لتمويل شراء السلاح والذخيرة لأوكرانيا خلال عامي 2025 و2026.
تعهد الرئيس ترامب ونائبه جي دي فانس ووزير خارجيته مارك روبيو بوقف إرسال المزيد من السلاح والذخيرة إلى أوكرانيا دفع الأوروبيين للبحث عن «بدائل سياسية واقتصادية» تحافظ على صمود أوكرانيا، سواء في الميدان أو على مائدة التفاوض، يأتي في مقدمة «الأفكار السياسية» محاولة الدول الأوروبية إقناع ترامب بتقديم «ضمانات أمنية» لأوكرانيا تكون بديلاً عن دخول أوكرانيا حلف دول شمال الأطلسي «الناتو»، حيث تقترح خطة ترامب لوقف الحرب وقف أي خطط لدخول أوكرانيا حلف دول شمال الأطلسي «الناتو» لمدة عقدين متتاليين، وعلى الصعيد الاقتصادي تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى توفير «شريان مالي واقتصادي» لشراء السلاح والذخيرة لأوكرانيا، حتى لا تستسلم كييف أمام موسكو كما تقول أورسولا فون ديرلاين رئيسة المفوضية الأوروبية.
يضاعف من قلق الأوروبيين حيال مستقبل الوضع في أوكرانيا «عدم اليقين» بشأن نجاح خطة ترامب لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، و«عدم الوضوح» بشأن تعاطي روسيا مع طرح الرئيس الأمريكي المنتخب لوقف الحرب، الأمر الذي دفع دول الاتحاد الأوروبي للبدء في دراسة سلسلة من الخطوات والاستراتيجيات، بهدف الحفاظ على طبيعة ونوعية الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الحالي لأوكرانيا، والهدف هو تأمين استمرار هذا الدعم خلال العامين المقبلين، فحتى اليوم تقوم الحسابات السياسية والعسكرية الأوروبية على ضرورة «هزيمة روسيا استراتيجياً»، وعدم منحها أي مكافأة سياسية من الحرب، خاصة ما يتعلق بالمقاطعات الخمس التي أعلنت موسكو ضمها إلى الأراضي الروسية وهي لوجانسك ودونيستك وخيرسون وزاباروجيا وشبه جزيرة القرم، فما هي الحلول والخيارات المتاحة أمام الأوروبيين لتمويل الجبهة الأوكرانية؟ وهل الاضطرابات السياسية و«زيادة نفوذ اليمين» إلى صناعة القرار الأوروبي يمكن أن تعرقل هذا التوجه؟ وإلى أي مدى يقود عدم الاستقرار في حكومات مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا إلى قرار الأوروبيين للاستمرار في دعم أوكرانيا بمفردهم بعيداً عن الدعم الأمريكي؟، وهناك مقاربات أوروبية عدة:
أولاً: ضمانات أمنية
تعتقد الدول الأوروبية، سواء الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أو في حلف «الناتو» أن رؤية ترامب للسلام هي في واقعها «خطة استسلام»، خاصة لو قادت إلى تخلي أوكرانيا عن بعض الأراضي لروسيا، وبعد دراسة أوروبية مستفيضة للأفكار التي طرحها ترامب لوقف الصراع الروسي الأوكراني توصل الأوروبيون إلى مجموعة من الأفكار سيتم طرحها على السيد الجديد للبيت الأبيض تقوم على تقديم واشنطن «ضمانات أمنية» لأوكرانيا كبديل لتأجيل دخولها إلى حلف «الناتو» مع تسريع خطوات دخول كييف إلى الاتحاد الأوروبي، وتشجيع الرئيس ترامب على القبول بهذه الخطة مقابل تعهد دول الاتحاد الأوروبي بتحمل العبء الأكبر لعمليات إعادة الإعمار في أوكرانيا بعد وقف الحرب.
ثانياً: الأموال بديلاً للرجال
يراهن قادة الاتحاد الأوروبي على إقناع ترامب بخفض تدريجي للمساعدات العسكرية الأمريكية وليس على وقف كامل للمساعدات لسببين رئيسيين، الأول هو الحفاظ على «موقف تفاوضي قوي» لأوكرانيا في أي مفاوضات قادمة مع روسيا، والثاني هو إعادة تأكيد أن المساعدات الاقتصادية والعسكرية هي البديل لإرسال الجنود، سواء كانوا من أوروبا أو الولايات المتحدة إلى جبهات القتال، وأن وقف المساعدات العسكرية مع عدم اليقين بنجاح المفاوضات يمكن أن يشجع موسكو على اجتياح جديد لكل الأراضي الأوكرانية، الأمر الذي قد يضطر الأوروبيين وحتى أمريكا لإرسال الجنود للدفاع عن دول حلف الأطلسي التي تجاور أوكرانيا مباشرة، ويراهن الأوروبيون على أن الرئيس ترامب سيكون منفتحاً على استمرار الدعم حتى لو «بوتيرة أقل» مما كان عليه الوضع خلال السنوات الثلاث الماضية «كخيار أفضل» من الخيارات الأخرى التي تنطوي على مخاطر إرسال الجنود أو التورط المباشر لحلف الأطلسي في الحرب مع روسيا، ويسعى القادة الأوروبيون إلى تذكير الرئيس ترامب بأن المساعدات الأمريكية والأوروبية هي التي ساعدت بالفعل على «بقاء كيان الدولة الأوكرانية» حتى اليوم.


ثالثاً: نظرية القنفذ
ضمن الخطط الأوروبية التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء مشاركة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في افتتاح كنيسة نوتردام هي إقناع الرئيس المنتخب ب«نظرية القنفذ» التي هي جوهر رؤية ترامب للسلام في العالم، ومن أجل الحفاظ على السلام لأطول فترة ممكنة في أوروبا، فإن الأمر يحتاج إلى «تقليل شهية روسيا على الحرب»، ويتحقق هذا فقط عبر صمود أوكرانيا، ودعمها بالسلاح والذخيرة، وتكبيد روسيا أكبر قدر من الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية، وبعد ذلك يكون الخيار الدبلوماسي ومائدة المفاوضات «أكثر سهولة» بينما الرؤية الحالية للرئيس ترامب تعطي روسيا، من وجهة النظر الأوروبية، مكاسب دبلوماسية من خلال «الإعلان الأمريكي المسبق» بوقف إرسال السلاح والذخيرة إلى أوكرانيا، وهو ما سيضع موسكو في وضعية تفاوضية أفضل من كييف.
رابعاً: عائدات الأصول المجمدة
يراهن القادة الأوروبيون على تجاوز كل العقبات التي تسمح لهم باستغلال عائدات الأصول الروسية المجمدة لإعادة تمويل أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وأن تلك العائدات مع القروض من صندوق النقد الدولي التي تجاوزت 5 مليارات منذ بداية هذا العام، إضافة إلى دعم الدول الصديقة لأوكرانيا خارج أوروبا يمكن أن تعزز فرص أوكرانيا لإنهاء الحرب دون الاستسلام لروسيا.
خامساً: الترويج لخسارة روسيا
هناك فريق كبير وسط الأوروبيين يقول إن أفضل طريقة لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية وعدم خسارة الشارع الأوروبي والرئيس ترامب معاً هو «الترويج لسردية جديدة»، تقول إن الواقع الميداني الذي وصلت إليه الأوضاع على الجبهة الروسية الأوكرانية هو «انتصار ساحق لأوكرانيا»، انطلاقاً من مبدأ إفشال الأهداف الروسية في السيطرة على كامل التراب الأوكراني، وعدم قدرة روسيا على السيطرة على العاصمة الأوكرانية، وتغيير النظام الحاكم بنظام موالٍ لروسيا، وإن روسيا خسرت نحو 300 ألف جندي، ونحو 400 ألف جريح وفق معهد دراسات الحرب في واشنطن، ناهيك عن سيطرة أوكرانيا على أراضٍ روسية واسعة في مقاطعة كورسك داخل الأراضي الروسية نفسها، وإن ترويج هذه الرواية يحقق مصالح الأوروبيين والأمريكيين، ويدعم جهود الرئيس الأمريكي الجديد لوقف الحرب، لكن مشكلة هذا التوجه أنه لا يقنع القيادة الأوكرانية التي تطالب بمزيد من الدعم السياسي والعسكري، لهزيمة روسيا أو استرجاع المقاطعات الخمس التي ضمتها.


عقبات على الطريق
تواجه الرؤية الأوروبية لمساعدة أوكرانيا بعد تولي ترامب الحكم في 20 يناير الجاري سلسلة من التحديات، ومنها:
1- عدم استقرار الحكومات الأوروبية
يأتي موقف ترامب الرافض لمنح أوكرانيا مزيداً من الأموال والسلاح في وقت غير ملائم للأوروبيين، وخاصة للدول الكبرى في أوروبا، مثل ألمانيا وفرنسا، ففي برلين انهارت عملياً حكومة «إشارة المرور» التي كانت تضم الحزب الاشتراكي الاتحادي بقيادة المستشار أولاف شولتز، وحزب الخضر بقيادة وزير الخارجية أنالينا بيربوك، وحزب الأحرار الديمقراطيين الذي انسحب بالفعل من الحكومة بعد رفضه التصديق على الميزانية في البرلمان، وتنتظر ألمانيا في الوقت الحالي «الانتخابات المبكرة»، وهي حالة نادرة في التاريخ السياسي الألماني منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، وتحتل ألمانيا في الوقت الحالي «المرتبة الثانية» في دعم أوكرانيا بعد الولايات المتحدة، حيث قدمت برلين بمفردها نحو 35 مليار دولار، وشكل انهيار الحكومة الألمانية الحالية ضربة كبيرة لجهود دول الاتحاد الأوروبي في دعم أوكرانيا، حيث تخشى باقي الدول الأوروبية أن الائتلاف المقبل في حكم ألمانيا، قد لا يكون بذات الحماسة والقوة في دعم كييف.
السيناريو نفسه يعانيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي خسر انتخابات البرلمان الأوروبي وبعدها خسر الأغلبية البرلمانية، وهو ما أسهم في سحب الثقة من الحكومة الفرنسية السابقة برئاسة ميشيل بارنيه، وما يؤكد الصعوبات التي تعانيها فرنسا في الوقت الحالي، فإن سحب الثقة الذي تعرضت له حكومة بارنييه هو الحدث الأول من نوعه منذ عام 1962، ورغم أن الرئيس ماكرون يرفض الاستقالة قبل نهاية ولايته في مايو 2027، إلا أن اليمين واليسار لا يتوقفان عن مطالبته بالاستقالة من منصبه، وهي نفس حالة عدم الاستقرار التي تمر بها حكومات أخرى في أوروبا مثل الحكومات الإسبانية والهولندية والبلجيكية، وهو ما يضعف من قدرة هذه الدول على تدبير الأموال والسلاح لأوكرانيا في ظل رأي عام أوروبي رافض للحرب ورافض لمزيد من الدعم للحرب في أوكرانيا.


2-  زيادة نفوذ اليمين
أغلبية الأحزاب اليمينية التي فازت في انتخابات البرلمان الأوروبي، وفي الانتخابات الوطنية الأوروبية في عام 2024 ضد إرسال الأموال والأسلحة من أوروبا إلى أوكرانيا، والأكثر من ذلك أن دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا كانت الورقة التي استغلتها بعض الأحزاب للتقرب إلى الناخب الأوروبي، فالأحزاب اليمينية سواء التي وصلت إلى السلطة أو التي عززت موقعها في صفوف المعارضة، تعتبر أن مشاكل الاقتصادات الأوروبية تبدأ وتنتهي عند الحرب الروسية الأوكرانية، وأن وقف هذه الحرب هو خيارها الأول لتحسين النمو، وتعزيز القدرات الاقتصادية الأوروبية، وهو ما يشكل ضغوطاً على القيادات الأوروبية التي تنتمي إلى أحزاب الوسط في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، وحتى على المستوى الأوروبي باتت أطروحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين الداعمة بقوة لأوكرانيا تواجه صعوبات كبيرة في ظل تنامي وفوز اليمين في أكثر من دولة أوروبية بما فيها النمسا وإيطاليا، فالمعروف أن زعماء اليمين الأوروبي قريبون سياسياً من الرئيس الروسي، مثل مارين زعيمة حزب التجمع الوطني الفرنسي، وماثيو سالفيني نائب رئيس الحكومة الإيطالية ورئيس حزب رابطة الشمال «الليجا».
3-  خلخلة الجبهة الأوروبية
تتفق جميع القراءات على أن أوروبا التي كانت متحدة في وجه روسيا في شهر فبراير 2022 لم تعد موجودة، وبات هناك تيارات ومواقف متباينة ومختلفة حول طريقة التعاطي مع الحرب الروسية الأوكرانية، فعندما اندلعت الحرب في 24 فبراير 2022 تسابقت الدول الأوروبية في إرسال الأموال والسلاح إلى أوكرانيا بما فيها الأسلحة والذخيرة التي كانت في مخازنها، لكن اليوم مع الاقتراب من الذكرى الثالثة لاندلاع الحرب في الشهر المقبل، ظهرت «الفجوات السياسية» في مواقف العواصم الأوروبية تجاه الحرب في أوكرانيا، ودبّ الخلاف بين أوكرانيا والكثير من هذه الدول منها الانتقادات الحادة التي وجهها الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي للمستشار الألماني بعد مكالمة المستشار أولاف شولتز للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 نوفمبر الماضي، والتي جاءت بعد نحو عامين كاملين على آخر اتصال بين الزعيمين، كما انتقد زيلينسكي زيارة روبرت فيتسو رئيس وزراء سلوفاكيا للكرملين، ولقائه مع الرئيس بوتن في 23 ديسمبر 2024، كما أن فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر يؤمن بضرورة وقف الحرب الروسية الأوكرانية على نفس طريقة ونهج صديقه الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، وهو ما يقول إن أوروبا المنقسمة تجاه الحرب في أوكرانيا ليس من السهل عليها أن تجد الحلول والبدائل للدعم الأمريكي السخي لأوكرانيا منذ نشوب الحرب.
المؤكد أن الجميع يتمنى وقف الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت لمشاكل سياسية واقتصادية يدفع ثمنها الجميع ليس في روسيا وأوكرانيا فقط، بل في أوروبا والشرق الأوسط وحتى داخل الولايات المتحدة نفسها، الأمر الذي يدفع بالجميع للأمل أن يكون العام الجديد هو عام وقف الحروب والنزاعات في أوكرانيا وكل دول العالم.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى