حين تتكلم مصر بلغة الخلود

كتبت نيفين كامل في صحيفة بوابة الأهرام:
“لقد أنرتُ مصر من جديد بعد أن غمرتها الظلمات” — توت عنخ آمون
تلك الكلمات المنقوشة في الأبدية تبدو اليوم وكأنها تستعيد صداها من جديـد. فبعد أكثر من ثلاثة آلاف عام على حكم ذلك الفتى الفرعوني، عادت مصر مرة أُخرى إلى النور.
في تلك الليلة، لم تكتفِ القاهرة بالتألق، بل تنفست التاريخ ذاته. شعور جماعي غمر البلاد، موجة من الفخر والانتماء اجتاحت كل قلب مصري — وقلبي بينهم. أمام أنظار العالم، قدمت مصر للزمن لحظة من الخلود: افتتاح المتحف المصري الكبير، حدث لا يمكن لأي إنسان أن يشهده دون أن يرتجف وجدانه.
ومع انحدار الشمس على هضبة الجيزة، اشتعل الأفق بالأضواء، يرسم لوحة من ذهب وأزرق وبرونز. عزف الأوركسترا السيمفوني الدولي المصري مقطوعة سلام، التي أُلفت خصيصًا لهذه المناسبة — نشيدًا للسلام تنبعث منه نغمات تليق بمعابد الخلود. أما المشهد المنصوب أمام الواجهة الزجاجية الهائلة للمتحف، فكان يعكس الأهرامات — شامخة وساكنة — كشاهدات صامتات على هذا العود المهيب للحضارة التي أنجبنها.
كان الضيوف — من ملوك ورؤساء وشخصيات ثقافية عالمية — يسيرون في موكب مهيب، يستحضر طقوس المواكب الملكية في مصر القديمة. وفي الداخل، جلس رمسيس الثاني على عرشه في القاعة الكبرى، وكأنه يستقبل الإنسانية جمعاء بنظرة من حجر خالد.
ثم بدأت اللحظة السحرية. تتابعت على جدران المتحف وعلى أجنحة الأهرامات صور عملاقة تحكي ملحمة آلاف السنين: ميلاد أول نور على ضفاف النيل، أمجاد الملوك، حكمة الكتبة، وصولًا إلى مصر الحديثة، السيدة على مصيرها والواعية برسالتها.
امتزجت الرقصات المستوحاة من الطقوس القديمة — قوارب مقدسة، رقصات سماوية، أناشيد القرابين — في لوحة فنية تمزج بين الأصالة والمعاصرة بنقاء مهيب.
وفجأة، تعالت الأنغام الأولى لأغنية “أنا المصري”، تصحبها الأوركسترا وترددها الجماهير في حماسة وطنية. ارتجف الجمع تأثرًا، فذلك النشيد — رمز الوحدة والكبرياء الوطني — بدا وكأنه يقول للعالم أجمع: روح هذا الشعب لا تموت.
ثم أطلت لحظة السمو والجلال. عزف الأوركسترا أنشودة الخلود، عمل موسيقي مهيب، كأنّ كل نغمة فيه منقوشة في صخر التاريخ نفسه. على الشاشات العملاقة، كان العالم بأسره يتنفس سحر تلك الليلة المعجزة.
عندها، تعالت الأصوات. أطلقت السوبرانو المصرية شيرين أحمد طارق صوتها الصافي القوي في أنشودة نداء الحضارة، ترتيلة جديدة مفعمة بالشغف والفخر. صوتها، بطابعه الروحي العميق، أعاد إلى الأذهان تراتيل كهنة طيبة. وفي وقت لاحق من الأمسية، تعالى صوت السوبرانو فاطمة سعيد بأنغام مستوحاة من الترانيم الفرعونية، في حوار أبدي بين الذاكرة والمستقبل.
توحدت أصواتهما في نداء واحد، يحمل رسالة سلام وإنسانية وخلود.
وفي اللحظة نفسها، كانت المسلات المصرية المنتشرة في العالم — في باريس، روما، لندن، نيويورك، واشنطن، طوكيو، برلين — تتلألأ معًا في وقت واحد. تلك المسلات، التي انتزعت يومًا من معابد الأقصر والكرنك، بدت وكأنها، لليلـة واحدة، تعود إلى مهدها. وكان بريقها يهمس للعالم:
“هنا، في القاهرة، ولد النور. ومن هنا يولد من جديـد.”
تحت هذه السماء المشحونة بالعاطفة، ألقى الرئيس عبدالفتاح السيسي كلمته. صوته الهادئ الواثق كان يحمل عمق القناعة وإيمان الرسالة. ذكر بأن افتتاح المتحف المصري الكبير لا يمثل فقط تتويج مشروع وطني عملاق، بل هو رسالة إلى الإنسانية: أن السلام يولد من الوعي، والثقافة تبقى اللغة الأسمى بين البشر.
وأكد الرئيس قدرة مصر على وصل عظمة الماضي بزخم المستقبل، مشددًا على أن إرادة الشعب المصري “لا تعرف المستحيل”. خطابه، البسيط والعميق، بدا إعلانًا للوحدة والتسامح والفخر الإنساني — رسالة حضارية موجهة إلى العالم بأسره.
ومع انقضاء السهرة المهيبة، لم يكن صدى الحدث محصورًا بين ضفاف النيل، بل دوى في أرجاء العالم. تناقلت الصحف الأجنبية عناوين تمجد “معجزة القاهرة”، ووصفتها كبريات وسائل الإعلام بأنها “أمسية أضاءت ذاكرة الإنسانية”. كتبت Le Monde عن “عودة مصر لتتحدث بلغة الخلود”، فيما قالت The Guardian إن “المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرح ثقافي، بل إعلان عن نهضة روحية لحضارة علمت العالم معنى الزمن”. أما شبكة CNN فقد بثت تقريرًا بعنوان Egypt’s Eternal Night of Light — “ليلة مصر الأبدية المضيئة” — معتبرة أن هذا الافتتاح أعاد تعريف العلاقة بين الماضي والمستقبل. وفي العواصم الكبرى، من باريس إلى طوكيو، احتفت المتاحف والمؤسسات الثقافية بالحدث، ورفرفت الأعلام المصرية أمام واجهاتها، كتحية رمزية للأمة التي أعادت للحضارة نبضها الأول. كان واضحـًا أن العالم لم يرَ في تلك الليلة مجرد احتفال مصري، بل لحظة إنسانية جامعة تعلن أن النور الذي ولد على ضفاف النيل ما زال قادرًا على إنارة دروب البشرية.
في تلك الليلة، أدرك العالم أن مصر لا تمتلك ماضيًا فقط يدرسه الآخرون، بل حاضرًا تصوغه هي بفخر ووعي وإيمان. تحت النظرات الصامتة للأهرامات، عادت الحضارة لتتنفس من جديـد.




