رأي

حول تقاسيم الصين.. الدبلوماسية

كتب عبدالله بشارة في صحيفة القبس.

مع انطلاق سمو ولي العهد نحو الصين، مصحوباً بوفد متنوع في مسارات التنمية الاقتصادية وفي تطوير البنية التحتية وأساليب الصيانة في مناخ ارتفع فيه نجاح الصين في تحقيق طموحاتها حول ترويض الممرات المائية في المحيطات وصولاً إلى موانئ تنقل صناعات الصين إلى خارج آسيا عبر موانئ في أفريقيا وأميركا الجنوبية ومواقع تصديرية في الخليج، بالإضافة إلى تطويع صخور آسيا وبحورها لتخدم أغراض الصين، وهنا يسجل هذا البلد الضخم المتحدي نجاحاً كبيراً في منطقتنا في الخليج، ليتواجد في شمالها عبر الأراضي الكويتية والعراقية والإيرانية كممرات تصدير إلى أوروبا..

والواضح أن مباحثات سمو ولي العهد في بكين ستتناول هذا الموضوع الذي يشكل المنحى الاستراتيجي الصيني في اكتمال التوجه الصيني في التواجد في كل زوايا العالم، حاملة صناعاتها ودبلوماسيتها وتراثها في آداب التعامل والاستفادة من سحر الغموض الذي يصاحب أساليبها.

وأتذكر بداية التواصل مع الصين الوطنية كما كانت تسمى، ففي عام 1964، قام وفد رسمي من جمهورية «فرموزا» «الصين الوطنية» برئاسة ابن الزعيم الوطني شيانج كاي شيك، الذي خسر الحرب الأهلية عام 1949، واستقر في جزيرة فرموزا مجدداً استمرار نظامه الوطني في الجزيرة ممثلاً لجميع أقاليم الصين التي سيطر عليها الحزب الشيوعي برئاسة ماوتسي تونج.

اجتمع الوفد الصنيي مع الشيخ صباح الأحمد في مكتبه في وزارة الخارجية، وكنت حاضراً ذلك الاجتماع كمدير لمكتب الوزير، حيث كان الشيخ صباح الأحمد واضحاً في حديثه مع الضيف حول أهمية إبراز اعتماد النظام في فرموزا على إمكانياته الوطنية، حفاظاً على نظامه، مع تخفيض الاعتماد على الحلفاء لاسيما الولايات المتحدة، ولم يستقبل الضيف هذه النصيحة بروح المتفهم، وإنما دافع عن الترابط مع الولايات المتحدة، ولم يخرج مبتسماً كما كانت الحال في بداية اللقاء.

كانت الكويت في ذلك الوقت تكثف اتصالاتها مع بكين التي رحبت بزيارة وفد كويتي كبير برئاسة الشيخ جابر الأحمد الجابر، وزير المالية، للتباحث في تشكيلة متنوعة من الملفات التي تهم البلدين، وحققت الزيارة تطوراً واكب المسار العالمي في تأكيد الاعتراف بسلطة النظام الماركسي ممثلاً للصين، ومنها اتسعت التفاهمات بين البلدين لاسيما في المجال السياسي والاقتصادي، مع تقارب المواقف حول من يمثل الصين في الأمم المتحدة.

وتأتي زيارة سمو ولي العهد حالياً، تعبيراً عن التكامل في تبادلية التفاهمات في جميع المجالات، وأقدر أن أسجل بأن الوقوف على حقائق الدبلوماسية الصينية أمر يحتاج إلى احتكاك متواصل، فالدبلوماسيون الصينيون تدربوا على الاكتفاء بالردود القصيرة الغامضة.

كانت تجربتي مع وفد الصين في الأمم المتحدة مثيرة في التمعن في تقاسيم وجوه الوفد الصيني ونغمات التعبير، ففي الحديث الرسمي يلتزم الوفد الصيني استعمال مفردات قابلة لمختلف التفسيرات، فقد كنت في شهر فبراير 1979، رئيسا لمجلس الأمن، وكانت فيتنام تشكو من غزو الصين لأراضيها مع طلب عقد اجتماع لمجلس الأمن، ولم يكن المزاج العام لأعضاء المجلس مستعداً لقبول مثل هذا الطلب، وإنما اكتفى الأعضاء بتفويض رئيس المجلس لإجراء مشاورات مع تأجيل عقد اجتماع رسمي للمجلس، بسبب حدة المواجهة بين الاتحاد السوفيتي والصين، حيث تدعم موسكو موقف فيتنام بينما تساند الصين كمبوديا.

كان واضحاً بأن الوفد الصيني يشعر بالضيق من وضع الصين في موقع المتهم بالاعتداء على دولة عضو في الأمم المتحدة، وكانت الوسائل التي يستعملها وفد الصين في تعامله مع المجلس تتأرجح بين اللجوء للغموض في الرد أو البحث عن مبررات لتأجيل المواجهة مع رئيس المجلس هروباً من الإحراج.

استدعيت سفير الصين للاجتماع في مكتب رئيس المجلس، لبحث شكوى فيتنام معه مباشرة، فاعتذر بأنه لا يستطيع أن يحضر إلى مبنى الأمم المتحدة لأن الوفد الصيني لا يملك سيارة تسير في شوارع نيويورك المملوءة بالثلج المنهمر بغزارة، ولذلك يعتذر عن الحضور، كان الرد مضحكاً وغير مقنع لكنه صادر من واقع لا تريد الصين أن تتعرض فيه إلى اتهامات كبيرة ومزعجة مضرة بسمعتها.

انتهت الأزمة بالانسحاب من أراضي فيتنام تحاشياً للتشهير الإعلامي الذي كان سيصيب سمعتها، التي تحرص بها على إقناع العالم بوفائها لجميع التزاماتها الدولية، لا سيما أنها عضو دائم في مجلس الأمن تتحمل مسؤوليات ضخمة لتأكيد أعمدة الاستقرار والأمن في العالم.

والجانب المثير في دبلوماسية الصين من حيث وضوحه والتزامه، كان مواقفها من الغزو العراقي ضد الكويت، فقد كان إيجابياً بقوة مع الابتعاد عن الدخول في مواجهة مع النظام العراقي، كانت سياسة الصين رفض العدوان ومعارضته دون العبور إلى ما يسبب المواجهة الدبلوماسية مع النظام العراقي، شعرت بهذا الموقف عندما قام وزير خارجية الصين بزيارتي في مكتبي في الأمانة العامة لمجلس التعاون في الرياض، حيث كان في زيارة رسمية للمملكة، بعد أن قام بزيارة العراق واجتماعه مع صدام حسين، حيث أخبرنا عن تصلب النظام ورفضه للحلول السلمية، وظل الموقف الصيني ملتزما هذا الخط المعارض للغزو والمبتعد عن المواجهة السياسية.

حقائق اليوم تختلف عن أجواء الماضي، فسيجد سمو ولي العهد والوفد المرافق موقفاً يضع التعاون الاقتصادي مع الدول النامية أولوية سياسية ودبلوماسية، ويرسم خطة التكثيف في مجالات التجارة والاستثمار وتعظيم التعاون في التواجد البارز عبر التشييد والإعمار في ترسيخ البنية التحتية، لاسيما في تحديث الموانئ البحرية والمساهمة في السدود وتشييد المطارات، وبناء مراكز ثقافية كدار الأوبرا في بعض العواصم.

لفت نظري تصريح وزير التجارة والصناعة السيد محمد العيبان بأن الزيارة ستشمل توقيع العديد من الاتفاقيات في مجالات البنية التحتية والصناعات والمدن السكانية والعمالية، وهذا ما عزز تفاؤلي بالتلاحم التعاوني الذي ستحققه زيارة سمو ولي العهد، فالصين دولة متعددة الأهداف تتناغم مع الرغبات التنموية وتتعمق في تحليلاتها مع الدول المتقدمة، وتتعامل بالحذر مع الكبار منها.

هناك واقع مؤثر في العلاقات الصينية – الكويتية، فلابد من الإشارة إلى أن الكويت أول دولة خليجية تتبادل العلاقات الدبلوماسية مع الصين، وأول دولة خليجية توقع على اتفاقية الحزام والطريق، ومع التطورات أصبحت الكويت موقع المركز الثقافي الصيني الذي يتوجه في نشاطاته لتغطية جميع مناطق الخليج، وبهذا الواقع المريح والايجابي يتواجد سمو ولي العهد في عاصمة الصين، تحمله موجات التفاؤل والمشاعر الايجابية بزيارة ناجحة ومثمرة.

هناك بعض الملاحظات التي تعتمد عليها الدبلوماسية الصينية، أولها الصبر، فالاستعجال غريب على فلسفة الصين، فعبر الصبر خرجت الصين من عالم غامض إلى أضواء الوضوح، ويذكر الدكتور كيسنجر في مذكراته عن الصين بأنه شعر خلال مفاوضاته في بكين عن مستقبل فرموزا، بأن الحديث عن عودتها الصين سيتم خلال مئة عام، وثانيها التكتم والحرص على السرية، حيث حققت الكثير دون إعلام خارجي، وثالثها الاختصار في المفردات والنفور من الإعلام.

وبهذه الآليات حققت الصين معجزات في نقل أربعمئة مليون مواطن من حالة الفقر إلى حالة ارتياح، ومن اقتصاد متخلف إلى ثاني اقتصادات العالم بعد الولايات المتحدة..

هذه ملامح الصين التي يعرفها العالم، ورغم تطورها الصناعي والتكنولوجي ونجاحها السياسي تظل متمسكة برابط التآلف مع العالم الثالث، عالم الكفاح الذي تتقنه الصين، وعالم الأحلام الذي كان سلاحها لتكون منافساً للولايات المتحدة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى