حكومة مصر تروج للفقر… ما أقل راتب يكفي الأسرة؟
حالة من التخبط الواضح انتابت كل وسائل الإعلام المصرية الرسمية في الأيام الماضية، روجت خلالها لنظريات تدبير الأمور الحياتية للأسرة بأقل الرواتب، في ظل تدني مستوى المعيشة، واتباع سياسات اقتصادية أدت لارتفاعات جنونية في الأسعار، ووصول التضخم إلى نسبة 26.5% خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، صاحبتها محاولات بإسداء النصح لربات البيوت بطريقة تدبير أمور المنزل بأقل تكلفة.
وروج الإعلام الرسمي لنظرية راتب الـ3000 جنيها (الدولار = نحو 50 جنيهاً)، وادعى البعض، أنها كافية لسد احتياجات أسرة مصرية مكونة من أربعة أفراد، بل وفصّلت تلك المنصات مكونات الراتب بدقة في محاولة لإقناع البسطاء بالرضا بالقليل وتدبير الأمور في ظل انسداد كل الآفاق والآمال في تحسن المعيشة في الوقت القريب.
يأتي ذلك في الوقت الذي قال فيه نائب رئيس شعبة الخضروات والفاكهة باتحاد الغرف التجارية، في حوار متلفز، إن تكلفة متوسط معيشة الأسرة شهريا للخضروات والفاكهة فقط تصل إلى 4 آلاف جنيه، وذلك لأسرة مكونة من أربع أفراد.
أقل راتب في مصر
وفي محاولة من “العربي الجديد” للوصول لأقل راتب يسد الاحتياجات الضرورية للأسرة المصرية البسيطة، طرحت أسئلة حول هذا الملف على الأستاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة والخبير بمنظمة الأغذية والزراعة “الفاو”، نادر نور الدين، في محاولة لفك تلك الطلاسم، والذي بدأ حواره بالتساؤل عن الأسعار التي يروجها الإعلام الرسمي: “كيف تروج وسائل الإعلام أن كيلو البطاطس بعشرة جنيهات بينما أقل سعر له اليوم 25 جنيهاً، والجبنة القريش يحسبونها بـ70 جنيهاً وأقل نوع بـ100 جنيه، وكيف يُحسب الأرز بسعر 20 جنيهاً، رغم أن سعر أقل نوع 30 جنيهاً”.
وأضاف: “دعنا نفترض أن الأسرة البسيطة ستطهو مرتين في الأسبوعين، مرة لحوما، وأخرى دجاجا وكل طبخة تُستهلك في يومين، يعني أربعة أيام لحوما ودجاجا ويوما خامسا سمكا ويومين بدونهما! أي كيلو لحمة في الأسبوع نفترض أنه بـ300 جنيه من اللحوم الرخيصة وليس اللحوم الجيدة التي تباع بـ450 جنيها، يعني 1200 جنيه للحوم فقط في أربعة أسابيع، وأيضا دجاجة في الأسبوع يعنيي أربع دجاجات في الشهر الدجاجة بـ150 جنيهاً يعني 600 جنيه في الأربعة أسابيع، ونفترض اليوم الخامس سمكا ولنقل كيلو ونصف وليس 2 كيلو من البلطي أرخص نوع منه بسعر 150 جنيهاً للكيلو ونصف يعني 600 جنيه في الشهر، ولليومين المتبقين نفترض لهما أكلات شعبية بدون لحوم، ونفترض 70 جنيهاَ لليوم يعني في الشهر 2100 جنيه”.
وأكمل حسبته بالقول: ” نفترض أن الأسرة لن تأكل البيض ولا الجبنة ولا المربى في الإفطار ونفترض أن الأب سيشتري لكل فرد في الأسرة ثلاث ساندوتشات فول وطعمية يعني 12 ساندوتش لأربعة أفراد بـ120 جنيها ونفترض في الشهر 22 يوما لأن الجمعة والسبت إجازة يعني 2650 جنيها ساندوتشات فول وطعمية للإفطار”.
وعن وجبة العشاء قال: “وسنفترض للعشاء كل واحد ثلاث خبزات فينو صغير بـ2.5 جنيه للواحد يعني 12 رغيفا للأسرة في اليوم أي 30 جنيها في 30 يوما يعني 900 جنيه”.
وعن باقي مستلزمات المنزل قال: “ولو فرضنا أننا اشترينا عبوتين من المنظفات في الشهر، بسعر 205 جنيهات للواحدة، يعني 500 جنيه، ونقول عندهم سيارة صغيرة لأنها أرخص من المواصلات ستستهلك من شارع فيصل للجيزة مثلاً 50 لتراً في الأسبوع يعني 200 لتر في الشهر وتصبح 3000 جنيه في الشهر، وسنعطي للطفل 20 جنيهاً مصروفاً في اليوم لو أراد أن يشتري بعض الحلويات أو الشيبس يعني لطفلين 40 جنيهاً في اليوم، فيكون 1200 جنيه في الشهر، كل ذلك ولم نقم بحساب مصروفات السكن والكهرباء والغاز والمياه وملابس الصيف والشتاء وملابس خروج للوالدين!”
وتابع: تصبح ميزانية الشهر 10250 جنيهاً، بدون بنزين ولا مواصلات!”.
إمكانية التوفير
في المقابل عارضت خبيرة التغذية، غادة الصايغ، الرأي السابق قائلة: “هناك إمكانية توفيق أوضاع الأسرة المصرية براتب 3000 جنيه وسد الاحتياجات الضرورية، والاستغناء عن كل الرفاهية والكماليات لتحقيق الكفاف فقط لا غير”. واتفقت معه من زاوية أخرى خلال حديثها مع “العربي الجديد”، بأن المبلغ لن يحقق للأسرة المصرية معيشة جيدة، ولن يكفي للمواصلات أو العلاج أو لنشأة أطفال يتمتعون بصحة جيدة، بل سيعانون من أمراض التغذية والتقزم وغيرها. ورأت الصايغ أن “الأولى هو البحث عن صالح الأطفال وصحتهم، وليس مجرد تحقيق الكفاف لأنه لن يبني مجتمعا سليما”.
أما المتخصصة في الاقتصاد المنزلي، وفاء صالح، فأعربت خلال حوارها مع “العربي الجديد”، عن دهشتها من الأرقام المتداولة من خلال القنوات والمواقع، وقالت: “حتى لو مبلغ الثلاثة آلاف جنيه غطى الحاجات الضرورية للغاية فلن يكفي للأبد وإنما سيسد الضرورات لمدة شهر أو شهرين، لكن لن يكفي لسد الإيجارات المتزايدة ولا الخدمات مثل الكهرباء والمياه والإنترنت والغاز التي ترتفع أسعارها كل شهر تقريبا”.
مجاملة الحكومة
وأكدت صالح أن أصحاب تلك الفرضيات لا يعيشون معنا على أرض الواقع وإنما يجاملون الحكومة على حساب المواطن البسيط، دون مراعاة للاحتياجات المتزايدة يوما بعد يوم، وتساءلت: “إذا كانت هذه الأرقام تكفي المصريين، فلماذا رفعت الدولة، الحد الأدنى للأجور واعترفت في عدة مناسبات بعدم كفايته، ليتنا لا نكون ملكيين أكتر من الملك”.
يذكر أن المجلس القومي للأجور خلال اجتماعه الأخير قرر رفع الحد الأدنى للأجور للعاملين بالقطاع الخاص إلى 6000 جنيه اعتبارًا من مايو/ أيار الماضي، وذلك بالتزامن مع بلوغ متوسط الأجر 7870 جنيهًا مصريًا أي ما يعادل حوالي 254.66 دولارًا.
وجاء ذلك، بعد اتخاذ الحكومة المصرية قرارات متتابعة برفع الحد الأدنى للأجور، بداية من 1200 جنيه إلى 2000 جنيه خلال عام 2019، ثم تقرر رفعه مرة أخرى عام 2021 إلى 2400 جنيه، ويعاد رفعه من جديد بحلول يناير/ كانون الثاني 2022 ليصل إلى 2700 جنيه، ليرتفع عقب ذلك إلى 3500 و4000 جنيه خلال مارس/ آذار 2023، وسبتمبر/ أيلول 2023 على الترتيب، حتى جاءت الزيادة الأخيرة مارس 2024 عند 6000 جنيه، في اعتراف واضح من النظام بزيادة احتياجات المواطن في مواجهة ارتفاع الأسعار والخدمات.
اتساع دائرة الفقر
وزيرة التضامن الاجتماعي مايا مرسي قالت مؤخرا في كلمة لها أمام البرلمان، إن هناك 12 مليون أسرة مصرية تحت خط الفقر، استفاد منها نحو 7.4 ملايين أسرة من برنامج الدعم النقدي المشروط، خلال السنوات السبع الأخيرة.
وأضافت مرسي أن خط الفقر القومي لا يتغير كل عام في أي دولة، وبالتالي المدة المنصوص عليها في القانون بثلاث سنوات كافية، لا سيما أن الهدف منه هو الضمان الاجتماعي، وليس صرف منحة شهرية للبطالة.
وحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الحكومي في مصر، فإنّ خط الفقر القومي يبلغ 10279 جنيهاً في السنة، ما يعني أنه يخص من يقل دخلهم الشهري عن 856 جنيهاً تقريباً. بينما يقدر البنك الدولي خط الفقر بـ2.15 دولار يومياً، بما يعادل نحو 107 جنيهات في اليوم. ودفع التزام الحكومة بسياسات صندوق النقد الدولي، التي تركز على تحرير سعر صرف الجنيه، ورفع معدلات الفائدة للحد من التضخم، المزيد من المصريين تحت خط الفقر. ويقدر البنك الدولي عدد السكان الذين يعانون من الفقر في مصر بنحو 60%، في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، إثر تعويم الجنيه خمس مرات منذ عام 2016.
كما ارتفع معدل البطالة في البلاد إلى 6.7% في الربع الثالث من 2024، بزيادة 0.2% على أساس فصلي، مقابل 6.5% في الربع الثاني، حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.