رأي

حكومة مصرية جديدة بمعايير قديمة

كتب محمد أبوالفضل, في “العرب” :

التغيير ما لم يكن من خارج الصندوق ستفقد الحكومة جزءا مهما من تفاعل الناس معها، ولذلك فعملية اختيار الوزراء صعبة

ينتظر المصريون خلال الأيام المقبلة تشكيلة وزارية جديدة لحكومة يرأسها مصطفى مدبولي الذي أعيد تكليفه مرة ثانية، ويحدو القليل من هؤلاء أمل أن تكون مختلفة عن سابقتها في مستوى الكفاءة والنزاهة وتلبية تطلعات المواطنين بشأن تخفيف المعاناة الاقتصادية عن كاهل شريحة كبيرة منهم، حيث أصبحت أزمة استمرار ارتفاع أسعار السلع والخدمات وتخفيف الدعم عن الخبز أخيرا الشغل الشاغل لهم.

ووضع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مجموعة من المحددات ليختار على أساسها رئيس الحكومة المكلف أعضاء وزارته، وهي من حيث الشكل مقبولة، ويتوقف المضمون على نوعية الكفاءات التي سيقع عليها الاختيار، فالكفاءة تحوّلت إلى كلمة مطاطة تحمل تفسيرات بعيدة عن المعاني المتعارف عليها، ولا تعني فقط الإجادة في العمل، لكنها يمكن أن تشمل الولاء والسمع والطاعة، ما يفرغها من المكونات الرئيسية المطلوبة في هذه المرحلة التي تحتاج فيها مصر ولاء وسمعا وطاعة للمواطن أولا.

ويصعب على أيّ حكومة أن تواصل عملها بأريحية من دون أن يشعر المواطن معها أنها خادمة عنده بالمعنى المجازي، وهي مشكلة حكومة مدبولي السابقة، التي لم يحسن الكثير من أعضائها تخفيف حدة الأزمات التي واجهت الناس، المرفهين والبسطاء منهم، ووصل الأمر إلى أن ضج الكثيرون بوزراء التعليم والصحة والتموين والكهرباء والنقل، إذ لم يحسنوا تقديم رؤى عملية والقيام بتصرفات تجلب لهم رضاء شعبيا.

ولن يكون التغيير في المنهج سهلا هذه المرة، بعد أن فقد أحد أهم معاييره الممثلة في تغيير رئيس الحكومة ذاته، باعتباره مسؤولا أمام المواطنين بعد رئيس الدولة مباشرة، وتعني إعادة تكليف مصطفى مدبولي أن التغيير يجب أن يكون شاملا في الوزراء، أو على الأقل يحوي عددا كبيرا منهم، كي يتمكن النظام من القول إن هناك تحولا في أداء المجموعة الجديدة، فاستمرار بعض الوزراء في مواقعهم يشير لتكرار تجربتهم.

وما لم يكن التغيير من خارج الصندوق ستفقد الحكومة جزءا مهمّا من تفاعل الناس معها، ولذلك فعملية اختيار الوزراء صعبة، وربما تستغرق وقتا، وإذا تم القياس على آخر تغيير حدث في رؤساء تحرير ومجالس إدارات الصحف القومية في مصر، فإنه يمكن استشفاف أن التغيير المتوقع سيلحق بعض الوزارات المسمّاة سيادية، ولن يكون بعيدا عن الدوائر القريبة من النظام الحاكم، وسيأتي سلسا وناعما ولن يكون دراميا.

ولا يميل الرئيس السيسي إلى علاج الأزمات بالصدمات والمفاجآت، ومن أبرز سمات معاونيه من الوزراء والمحافظين وكبار المسؤولين، القدرة العالية على العمل وتنفيذ التعليمات والالتزام بالصرامة والتمسك في الحزم عند مواجهة المشاكل.

وهذه صفات موجودة في القادة العسكريين، أو المدنيين الذين يحملون جينات مماثلة، ويفضل الرئيس المصري الاستعانة بهؤلاء، بحكم نشأته في مؤسسة معروف عنها الحسم، والسمعة الإيجابية التي خلقتها في الوجدان العام للمصريين، والثقة في قدرتها على الإنجاز في المراحل التي تواجه فيها الدولة تحديات قاسية في الداخل والخارج.

وتقول المؤشرات العامة إن الحكومة الجديدة ستأتي ولادتها بمعايير قديمة، وهذه واحدة من العقبات التي سوف تكبّل عملها، فقد شهدت السنوات الماضية إخفاقات في بعض المجالات، جعلتها في حاجة إلى إعادة نظر في السياسات التي أفضت إليها والاستفادة مما انطوت عليه من دروس وعبر، ولن يحدث ذلك ما لم يتم ترتيب الأولويات وفقا لمستجدات كشفت عن غضب من عدم تحقيق أحلام الناس في الاستقرار الاقتصادي.

ويعد المحور الاقتصادي وروافده المتشعبة من أهم المحاور التي على الحكومة الجديدة أن تثبت فيه كرامتها السياسية، حيث مرت الفترة الماضية بسنوات هبوط، تكاتفت فيها عوامل عديدة، فحدثت أزمة مركبة، أرهقت الحكومة والمواطنين معا، وأدت إلى تحويل العلاقة بينهما إلى ما يشبه لعبة القط والفأر، فالثاني يجري ليهرب من الأول الذي لا يجد مفرا سوى امتصاص دمائه لتتمكن الحكومة من الوفاء ببعض التزاماتها.

ويصعب أن تستمر هذه اللعبة بعد استنزاف الحكومة الكثير من حيلها لمص دماء الفأر (الناس)، وكان يعوّل على أن القط سيتحسن سلوكه مع تغيير المنهج الذي يعمل به لاصطياد غريمه، ومن خلال تخفيف عملية محاصرته وإيجاد بديل آخر للتغذية الاقتصادية، وهو ما حاولت حكومة مدبولي القيام به قبل فترة قصيرة من تقديم استقالتها، حيث اتجهت إلى تسريع وتيرة جذب الاستثمارات الأجنبية، والتي يجب أن تكون عوائدها مجدية وذات مردودات سريعة للمواطنين بعد تشكيل الحكومة الجديدة.

ورفض الرئيس المصري أن يجعل من رئيس الحكومة كبش فداء للأزمات الاقتصادية التي مرت بها البلاد السنوات الماضية ويقوم بالتضحية به، كما كان متوقعا، وأكد استمراره أن السيسي وحده يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية.

وتمثل تلك المسألة علامة ذات شقين. الأول الثقة المطلقة في المنهج الذي تسير عليه الحكومة وإمكانية أن تحقق نتائج مختلفة مع وزراء جدد. والثاني عدم وجود بدائل يمكن أن تغير من الوضع الراهن، وهي مجازفة تعني اليقين بتجاوز المطبات الحالية، وأيضا التشاؤم وعدم القدرة على إحداث تحول نوعي في الأوضاع العامة.

وأوصلت عملية إعادة تكليف مدبولي بتشكيل الحكومة الجديدة فئة من المواطنين إلى عدم الأمل في حدوث تغيير هيكلي في الأداء العام، وهي رسالة محبطة تعني الاستسلام لما تقوم به الحكومة، أو خروج التململ الشعبي عن أطره المنضبطة، وكأنّ من يتولون أمر ما يسمى بـ”الدولة العميقة” يريدون اختبار صبر الناس وقياس المدى الذي يمكن أن يصل إليه غضبهم المكتوم، وإحراج النظام المصري أمام المواطنين والتأكيد على أنه لا توجد حلول سحرية عاجلة لتجاوز الأزمات الاقتصادية.

ربما تقابل الحكومة المنتظر الإعلان عنها في غضون أيام بشيء من الريبة ما لم يعلن رئيسها عن تبني سياسات مغايرة كي يتمكن من إقناع المصريين بأنه سوف يحصل على نتائج مغايرة تعود فائدتها عليهم، بينما الدوران في فلك تصورات سابقة يرسخ عدم وجود تحولات في توجهاتها، وبالتالي صعوبة تخطي الأزمات الاقتصادية على المدى القصير، خاصة أن الطريقة التي عملت بموجبها الحكومة المستقيلة خلقت طبقة مستفيدين يريدون الحفاظ على مصالحهم عبر عدم المساس بالمنهج نفسه.

وتكمن العقدة المركزية في هذه الزاوية، فالمصريون اعتادوا التأقلم مع الأزمات والتكيف بدرجة عالية مع توابعها، لكن يزعجهم وجود شريحة من المستفيدين وهم يريدون تجميد الأوضاع على ما هي عليه، وعدم تغيير منهج الحكومة، بل يجازفون بالرهان على صبر المواطنين، ما يدفع فئة منهم إلى تصرفات متباينة بعد أن رسخ في أذهان من تابعوا ردات فعل المصريين أنها “بلا كتالوج” أو يصعب توقعها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى