كتب رفيق خوري في صحيفة إندبندنت عربية.
لا شيء يرد إسرائيل عن سياسة الاغتيالات بصرف النظر عن جدوى أو عبثية الاغتيالات في صراع جيوسياسي واستراتيجي.
ولا أحد يعرف إلى أي مستوى يصل رد “حزب الله” على مذبحة الاتصالات واغتيال قائده العسكري إبراهيم عقيل وأركانه في غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت، فهو سارع إلى تعيين بدائل لقيادة “قوة الرضوان” النخبوية وتكثيف القصف الصاروخي وتوسيع مساحته الجغرافية حتى حيفا. والكل يعرف أن الحرب هي، حتى إشعار آخر، حرب بلا معارك، مجرد تبادل قصف بالصواريخ والمسيّرات، والضحايا هم من المدنيين أو من المقاتلين الذين لم يسقطوا في معركة وإنما جرى اغتيالهم في سيارات أو على دراجات أو في المنازل والمكاتب.
وهي أيضاً صارت حرباً بين طرفين محشورين، إسرائيل في ورطة تحاول عبثاً الخروج منها بقوة النيران والقتل التكنولوجي، و”حزب الله” في حشرة بعد 11 شهراً على حرب الإسناد لحركة “حماس” مرتبطة بما لا يحدث وهو وقف النار في غزة.
إسرائيل لا تستطيع أن تعيد بالقوة العسكرية، بعد فشل الدبلوماسية، المستوطنين المهجرين من الجليل إلى مستوطناتهم، و”حزب الله” يدرك أن حرب الإسناد حققت هدفاً مهماً في شمال إسرائيل، لكنها لم تحقق الهدف الأساس وهو التأثير في حرب غزة لمصلحة “حماس”.
وكل منهما قادر على إلحاق أذى كبير بالطرف الآخر، ولا مجال لنجاح أي طرف في كسر الإرادة السياسية للآخر، فلا “حزب الله” يفك الارتباط بين جبهة الجنوب وغزة بالقوة أو من دون نهاية لحرب غزة تقبلها “حماس”، ولا إسرائيل تريد نهاية لحرب غزة إلا لمصلحتها التي تسمح لها بإكمال اللعبة في الضفة الغربية التي هي “الجائزة الكبرى” في الصراع.
والسؤال التقليدي بالطبع هو إلى أين من هنا؟، والجواب يبدأ من القراءة في أمرين، أولهما أين يقف كل طرف الآن؟، وثانيهما أبعاد اللعبة الإقليمية والدولية الأكبر من الطرفين، لا سيما بين اللاعبين الأميركي والإيراني وما يرفضانه وما يرغبان فيه وما يقبلانه على مضض.
أميركا، خصوصاً خلال الأسابيع الفاصلة عن معركة الانتخابات الرئاسية بين المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس نائبة الرئيس جو بايدن والمرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب، تحذر من التصعيد وترفض الحرب الشاملة إلى جانب دعمها لإسرائيل في ضرب “حماس” وفرض التهدئة على “حزب الله” وتطبيق القرار 1701.
وإيران ترفض الحرب الشاملة وتراهن على حروب محدودة وأزمات وفوضى تكسر هيبة إسرائيل وتضعف نفوذ أميركا، وهي تدير اللعبة في استراتيجية “وحدة الساحات”.
وبكلام آخر، فإن الحرب الشاملة المرفوضة التي يريدها بنيامين نتنياهو ويتمنى حدوثها يحيى السنوار زعيم “حماس” هي الحرب التي تدخل فيها أميركا وإيران مباشرة.
أميركا المنقسمة سياسياً بحدة تخشى من أن تقود الحرب الشاملة إلى فوضى أكبر وصراع دولي وحرب أهلية في الداخل، وإن كانت الأقدر على النصر فيها، وإيران تراهن على صفقة كبيرة مع أميركا تقود إليها الحروب المحدودة في المنطقة، لكنها تخاف على مشروعها الإقليمي وبرنامجها النووي وحتى سقوط نظامها بصدام مباشر مع قوة عظمى.
أما الحرب المفتوحة المحصورة بين إسرائيل و”حزب الله” ومعه جبهات الإسناد، فنحن فيها حالياً ولسنا على حافتها كما يقول كثيرون.
نحن فيها وإلا ما معنى أن تقوم 100 طائرة إسرائيلية بقصف أهداف في لبنان من الجنوب إلى آخر البقاع مروراً ببيروت؟، ما معنى حديث المسؤولين الإسرائيليين عن استمرار القصف لإضعاف قوة “حزب الله” وادعاء تدمير آلاف الصواريخ؟، وما معنى أن يقصف “حزب الله” قواعد عسكرية في إسرائيل من بينها قاعدة رامات ديفيد والمجمعات العسكرية لشركة “رافائيل” بأكثر من 100 صاروخ صباح يوم واحد؟، ماذا عن الطوارئ وتعطيل المدارس في وسط إسرائيل وشمالها؟، وماذا عن تهجير ربع مليون مواطن في الجنوب وتدمير بيوتهم وأرزاقهم بالقصف الإسرائيلي اليومي وبالقنابل الفوسفورية؟.
إنها حرب واسعة مفتوحة تحت سقف الحرب الشاملة ولكن بالتقسيط. حرب جولات. حرب وضعت حرب غزة في الظل. حرب تصعيد متدرج من الطرفين.
في كل حرب يعود الجميع لقول كلاوزفيتز “الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى”، والمعنى البسيط لذلك أن المشكلة في السياسة التي تقود إلى حرب هي دائماً كارثة. وليس من الضروري أن تحل الحرب المشكلة التي عجزت السياسة عن حلها، بالتالي لا بد من العودة للسياسة.
ولكن السؤال المقلق هو ماذا لو كنا في حرب ليست استمراراً للسياسة بوسائل أخرى بل لقتل السياسة؟، والواقع أن هذا ما نحن فيه، فما وصل إليه الصراع العربي-الإسرائيلي ومعاهدات السلام واتفاقاته هو التسليم بالإجماع العربي والدولي على أن قمة السياسة في قضية فلسطين هي تحقيق “حل الدولتين” بإقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
والحرب الدائرة هي بين طرفين يرفضان “حل الدولتين”، حكومة نتنياهو الأشد تطرفاً وجنوناً في تاريخ إسرائيل تريد السيطرة على كل فلسطين من البحر إلى النهر وترفض، لا فقط قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل بل أيضاً الخطاب الدولي حول الدولة.
وإيران والفصائل المرتبطة بها في “محور المقاومة”، لا سيما حركة “حماس”، ترفع شعار التحرير من البحر إلى النهر وإقامة دولة فلسطينية واحدة، مهما طال الزمن.
كان مستشار النمسا مترنيخ مؤسس نظام “التناغم” الأوروبي وتوازن القوى بعد حروب نابليون في القرن الـ19 يقول من المستحيل وقف معركة بين طرفين لأن كلاً منهما سيعاند وتصعب زحزحته، والحل هو إدخال طرف ثالث فيصبح الوضع طرفين مقابل واحد ويمكن أن تتوقف “المعركة”. لكننا في حرب لا مجال خلالها لدخول طرف ثالث إلا كوسيط عاجز كما نرى الآن.