رأي

حرب غزة تغير قواعد اللعبة إقليميا

كتب خميس الجهيناوي في صحيفة العرب.

الحرب أبرزت عمق تشابك القضايا الإقليمية واستحالة معالجتها بشكل منفصل وكان هجوم حماس حدثا فاصلا سبّب تحولا أساسيا في الطريقة التي يُنظر بها إلى الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.

يعدّ الصراع المتواصل في غزة أطول حرب تشنها إسرائيل منذ إنشائها في 1947. وهو من أشد الهجمات التي يواجهها الشعب الفلسطيني فتكا وتدميرا. وبينما يرغب الفلسطينيون والإسرائيليون على حد سواء في إنهاء الصراع، يسعى القادة في تل أبيب وحماس إلى إطالة أمد المواجهة الدموية، كل حسب مصلحته.

ويبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مصمّما على مواصلة الهجمات الدموية للجيش الإسرائيلي على غزة رغم الخسائر الفادحة التي تكبدها الأهالي المدنيون والدمار الشامل للبنية التحتية في القطاع. ويكمن هدفه المعلن في تحقيق الأهداف التي حددها للحرب، وهي استعادة الرهائن و”القضاء على حماس”. كما يرى في أيّ وقف للأعمال العدائية الجارية منفذا يمكن أن يؤدي إلى مساءلته أمام العدالة الإسرائيلية.

وتسعى حماس من جهتها إلى تأمين موقع رئيسي للحركة في المشهد السياسي لما بعد الحرب، خاصة لكونها ترى أن السلطة الفلسطينية بصدد الانهيار وأن توجهاتها التفاوضية السلمية تجاه سلطة الاحتلال وصلت إلى أقصى أمدها. كما أن مصداقيتها تآكلت لدى الشعب الفلسطيني الذي بدأ يشك بشكل متزايد في قدرتها على وقف سياسات إسرائيل التوسعية.

ورغم ما عبّر عنه المجتمع الدولي من دعم غير مسبوق للقضية الفلسطينية، بقي القادة الفلسطينيون جامدين في مواقفهم. فقد تواصلت الانقسامات العميقة بين حماس والسلطة الفلسطينية على مدى السنوات الـ17 الماضية بمباركة من الاحتلال الإسرائيلي وبتشجيع من قبل بعض الأطراف الإقليمية. ويبدو أن الطرفين مصممان على الحفاظ على الوضع الراهن مما يجعل إمكانية تشكيل جبهة فلسطينية موحدة في أيّ محادثات سلام مقبلة في فترة ما بعد الحرب مجرد آمال.

أما السلطة الفلسطينية، التي من الواضح أنها استنفدت كل طاقاتها، فهي تبدو غير قادرة على وقف حملات قمع قوات الاحتلال أو وضع حد لهجمات المستوطنين. وتعمل جاهدة من أجل إحياء شرعيتها التي عرفت تراجعا كبيرا خاصة منذ أن قرر الرئيس محمود عباس تأجيل الانتخابات العامة، التي كان من المفروض إجراؤها خلال 2021، إلى أجل غير مسمى.

هناك سيناريوهان محتملان لمسار تطور الأحداث خلال الفترة المقبلة. السيناريو الأكثر ترجيحا هو أن يواصل نتنياهو حربه في غزة، وأن يسعى إلى تقديم نفسه على أنه أنجز وعده بالقضاء على تهديد حماس واستعادة الرهائن مهما كان الثمن، بينما يواصل المناورة للحفاظ على ائتلافه الحاكم للهروب من قبضة العدالة. وسيكون هذا السيناريو، إن تحقق، كارثيا بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني ويحول دون أيّ استئناف جدّي لمحادثات السلام، بما يحطم أيّ أمل في إنشاء دولة فلسطينية مستقلة في إطار زمني معقول فضلا عن ازدياد العدد المهول للشهداء والضحايا  والدمار جراء مواصلة العدوان الإسرائيلي.

ويشمل السيناريو المحتمل الثاني نجاح الضغوط الداخلية والدولية خاصة من قبل الإدارة الأميركية الواعية بتأثير الصور الفظيعة الصادرة من غزة على حظوظ الرئيس جو بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة فيكبح جماح طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي ويثنيه عن مواصلة الحرب مما سيساعد على تصدع الائتلاف الإسرائيلي ومغادرة الوزراء اليمينيين المتطرفين لمجلس الوزراء. وإن تم ذلك فمن شأنه أن يعجّل في التوصل إلى وقف إطلاق النار وحصول صفقة جديدة بخصوص المحتجزين وبداية رفع معاناة سكان القطاع وانسحاب القوات الإسرائيلية منه.

وتدعم الحكومة الأميركية والدول العربية هذا السيناريو، حيث أعد عدد من الدول العربية وثيقة من 12 نقطة تسرد التدابير التي تمهد الطريق لإعادة إطلاق المفاوضات وعودة الهدوء إلى الأراضي الفلسطينية مما سيمكّن من إطلاق مفاوضات جادة بهدف التوصل إلى تسوية سلمية للصراع على أساس حلّ الدولتين.

وتتطلب هذه العملية، التي ستكون طويلة وشاقة ومعقدة، التزاما جادا من المجتمع الدولي، وخاصة من الولايات المتحدة، وتصميما فلسطينيا واضحا على التغلب على الانقسامات الداخلية وإنشاء جبهة موحدة في مواجهة عدو يعمل جاهدا على تقويض أيّ جهود جادة نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

وكان إنهاء عزلة الفلسطينيين في الساحة الدولية وعودة قضيتهم مرة أخرى إلى الواجهة من النتائج المباشرة التي حققتها الحرب المستمرة وتداعياتها الكارثية على واقع الشعب الفلسطيني حيث حصل تغيير جوهري في مواقف عدد من الدول ومكونات المجتمع الدولي تجاه الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وأضحت إسرائيل اليوم محل تتبعات قضائية أمام محكمتي العدل والجنايات الدوليتين بتهم الإبادة وجرائم الحرب.

كما أن هجوم 7 أكتوبر ساعد ولو مؤقتا على الأقل، على إيقاف ديناميكية التطبيع التي انطلقت مع اتفاقيات إبراهيم. ومن الواضح أيضا أن حماس كانت تسعى من خلال شن هجومها إلى كسر الحصار المفروض من قبل الاحتلال على قطاع غزة، إضافة إلى وضع نفسها بديلا للسلطة الفلسطينية التي تعاني من انحسار شعبيتها لدى الشارع الفلسطيني.

وأبرزت الحرب عمق تشابك القضايا الإقليمية واستحالة معالجتها بشكل منفصل. وكان هجوم حماس بطريقة ما حدثا فاصلا سبّب تحولا أساسيا في الطريقة التي يُنظر بها إلى الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وسبل التعامل معه.

ولا شك في أن الافتقار الواضح إلى التزام المجتمع الدولي بحل سلمي حقيقي للصراع، وقرار بعض الدول العربية إبرام صفقات تطبيع مع الدولة العبرية، دون مراعاة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، قد ساهما في اندلاع الأزمة الحالية. وفتح هذا النهج المجال لإدراك أن تسوية القضية الفلسطينية ستبقى عنصرا مركزيا في أيّ مصالحة بين الدول العربية وإسرائيل. وإن تؤكد المملكة العربية السعودية استعدادها على مواصلة المباحثات الهادفة للتوصل إلى تحقيق اتفاق أمني مع الولايات المتحدة ضمن حزمة تطبيع أكبر، فإنها أصبحت الآن تلح على ضرورة التزام واشنطن بالشروع في عملية دبلوماسية جديدة تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة طبقا لمقتضيات مبادرة السلام العربية، كشرط أساسي لا يمكن تجاهله في طريق تأسيس أيّ علاقات رسمية مع الدولة العبرية. وهذا يؤكّد أن حرب غزة قد غيرت قواعد اللعبة الإقليمية على أكثر من صعيد.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى