حرب المئة عام في السودان
كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.
خطاب البرهان بشأن استمرار الحرب من دون اعتداد بالتكلفة المادية والبشرية يتسق مع المعنى الغيبي الذي يطفو على السطح عندما تتزايد الهزائم أو يفتقد القادة حلول الأرض فيلجأون إلى حلول السماء لإنقاذهم.
من المؤكد أن قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان عندما لوّح بالاستعداد لاستمرار الحرب ضد قوات الدعم السريع مئة عام، لم يقصد أن عمره سوف يمتد حتى يحقق النصر بعد هذه الفترة الزمنية الطويلة، بل كان يريد بث المزيد من الروح المعنوية في صفوف عناصره لمواصلة القتال، وأنه لن يتوقف عن الحرب مهما كلّفته من خسائر وتضحيات وانسحابات، أو مُورست عليه ضغوطات من جهات داخلية وخارجية للتجاوب مع سبل البحث عن تسوية سياسية.
عقب كل جولة تفاوضية فاشلة أو تأتي نتائجها محدودة، نسمع ارتفاعًا في صوت الحرب، وغلوّاً لضجيج السلاح في الخطاب السياسي لدى قائد الجيش وبعض مساعديه. وبعد كل انكسار ميداني يزداد اللجوء إلى العبارات الحماسية والرهان على الغيب في المستقبل. وهي عادة مستقاة من خطاب إسلامي أصحابه على يقين من الانتصار في نهاية المطاف، بعيدًا عن الأخذ بالأسباب التي تؤدي إليه، ما يعني تغليب التواكل على التوكل، ويصطحب الثاني معه استعدادات عملية ودنيوية لتحقيق النصر.
ما تحدث عنه الجنرال البرهان أخيرًا يندرج تحت النوع الأول (التواكل)، وينبثق من ثقافة عامة لا تأخذ بها الجيوش المحترفة، التي تعلم أن التفوق العسكري له أسباب موضوعية يجب توافرها، لها علاقة بعدد الجنود وتدريباتهم، والأسلحة وتقدمها، والتحالفات وصمودها، وإمكانيات عدة تفضي إلى انتصار جيش وإخفاق آخر.
أتذكر أن القيادي (المختفي حاليًا) في حركة حماس الفلسطينية محمود الزهار، قال ذات مرة إن المقاومة على استعداد للبقاء في قطاع غزة فقط ومحاربة الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية عقودًا طويلة حتى يتحقق النصر، وضرب مثلًا بمقاومة الجزائريين للاحتلال الفرنسي لأكثر من مئة عام، ثم انسحبت فرنسا، بمعنى أن عنصر الزمن لا يهم، وكثرة الضحايا والتقتيل والدمار ليست محل اعتبار، طالما هناك إيمان بالنصر، وقد كبّد شيوع هذا الخطاب الشعب الفلسطيني خسائر فادحة.
يتسق خطاب البرهان بشأن استمرار الحرب من دون اعتداد بالتكلفة المادية والبشرية مع المعنى الغيبي الذي يطفو على السطح عندما تتزايد الهزائم، أو تتهاوى معنويات الجنود، أو يفتقد القادة حلول الأرض فيلجأون إلى حلول السماء لإنقاذهم، وهي مسألة تنتشر بسرعة في صفوف الجيوش ذات العقيدة القتالية الدينية.
في ظني لم يقرأ قادة الجيش السوداني السياقات التي حفرت العبارة الشائعة حول حرب المئة عام بين فرنسا وبريطانيا، وصارت ضربًا للأمثال، ووقعت على مدار 116 عامًا، خلال الفترة بين عامي 1337 و1453، وانتصرت فيها فرنسا. ويعود سبب التسمية إلى عام 1823 عندما أطلق المؤرخ الفرنسي فيليب كونتامين اسم حرب الـ100 عام على تلك الحرب في كتاب نشر له في ذلك العام.
كشفت إشارة البرهان إلى حرب تستمر مئة عام عن مضامين سياسية متباينة، منها تأثره بنمو قوة التيار الإسلامي داخل الجيش، والذي يردد هذه المقولات على سبيل التقية والأمل، وتبرير التخلف عن التجاوب مع المفاوضات، بقطع النظر عن الجهة الراعية. ففي غالبية المبادرات التي أطلقت من جهات مختلفة لم تكن هناك مرونة من الجيش، أو وجدت مرونة محدودة مرتبطة بأجواء سياسية، ثم يتم التنصل منها.
قطع قائد الجيش بهذه الإشارة، والتي ربما تكون عفوية، حبلاً مع الوسطاء الراغبين في وقف الحرب قريبًا، والمواطنين الذين ضجوا من توابعها، ووضع سقفًا زمنيًا بعيدًا يثير الألم والإحباط، ويجبر قوات الدعم السريع على أن تضع أمامها هدفًا لحسم الحرب سريعًا، وتوظيف التمركزات العسكرية التابعة لها، لأنها غير مستعدة للقتال مئة عام، بعد أن استحوذت على أكثر من نصف ولايات السودان في غضون عام.
لا يزال الجيش السوداني يملك من القوة والأدوات العسكرية التي تمكنه من الاستمرار في قتال الدعم السريع، ولن تثنيه الخسائر الميدانية التي تكبدها عن هدفه الرئيسي، وهو تحقيق قدر من التوازن في الحرب، يساعده على عدم تقديم تنازلات على طاولة المفاوضات، خاصة أن الاتصالات مع روسيا وإيران ربما توفر له مساعدات تمكّنه من الصمود، لذلك فالتعويل على الوقت ربما له علاقة بمعدات يمكن الحصول عليها.
ويشير الواقع العملياتي حتى الآن إلى العكس، فعلى مدار حوالي 18 شهرًا خسر الجيش ولايات عديدة، وفقد مواقع إستراتيجية، وخرجت مدن كبيرة عن نطاق سيطرته العسكرية، وتعرضت بعض حامياته الحيوية إلى انكسارات مفاجئة، ما يعني أن مئة عام أو مئتين أو أكثر من الصعب أن تفضي إلى نصر مادي أو معنوي، ما لم يحدث تغيير جوهري في العقيدة القتالية.
كما أن حصر الرهان على الغيب أو انضمام جيوش من “الملائكة” للقتال يرتبط بإخلاص النوايا وعدم الكذب، والحرص البالغ على أرواح السودانيين، وأن يكون الجيش المقابل من “الكفار”. كلها خصال لا توجد إثباتات على وجودها، ما يجعل حديث المئة عام من القتال أو العزلة، هو من قبيل الخرافة والخيال وعدم اليقين، والهروب وليس المواجهة، والوعود الزائفة التي تدغدغ وجدان الشعب السوداني، والذي بدأ يتخلى عن رفاهية الانسياق وراء حروب جوفاء، الخاسر الأول فيها البسطاء، فمعادلة إمّا معي أو ضدي تكبّد البلاد خسائر ذات تكلفة باهظة.
يلاحظ المراقب للتطورات في السودان وجود نوع جديد من الانقسام، يقوم على أساس نفي الآخر والتخلص منه تمامًا، وفقدان الرصيد الكبير من التسامح، الذي عدّه الكثيرون من الوسائل التي تعصم السودان من التفتت، وتدعم وقف الحرب خلال مدة قصيرة، بالتالي فالإشارات المتكررة لرفض التجاوب مع المفاوضات وما تتمخض عنه من نتائج إيجابية من الطبيعي أن تؤدي إلى استمرار الصراع، لأن سقف التوقعات الذي وضعه الجيش في بداية الحرب لا يتناسب مع حصيلتها السلبية بالنسبة إليه حتى الآن.
ينطوي القفز بقوة إلى الأمام من خلال مواصلة الحرب مدة طويلة على فقدان الكثير من المعالم الراهنة للبلاد، وقد يصبح التمركز في بورتسودان غاية المراد، بزعم الانطلاق منها نحو استرداد ما جرى فقدانه من مساحات شاسعة في المستقبل، وهو إعادة إنتاج للمعنى الذي تحدث عنه محمود الزهار.
ففي الخطاب المعلن من قبل قادة في الجيش السوداني شيطنة متعمدة لقوات الدعم السريع ومحاولة تصنيفها ضمن إطار “اللاوطنية”، والبعض لا يتورع عن الإشارة إلى الجذور الاجتماعية لها لإشعال المزيد من النيران المناطقية، وهناك من يشيرون إلى أهداف خفية في أجندتها والتواطؤ مع جهات خارجية، وسوف تفضي هذه الحالة إلى كسر في الوجدان العام للسودانيين، ولدى غالبيتهم قدرة إنسانية فائقة على استيعاب بعضهم في الكثير من المحطات الحرجة، بلا اعتداد بلون أو قبيلة أو منطقة أو دين.