رأي

حرب السودان… وقفات مع مشهد لندن

كتب مدى الفاتح, في “العربي الجديد” :

ضمن سلسلة من الجولات العالمية، أمضى ممثلون لمجموعة “تقدم” السياسية السودانية، الابنة الشرعية لما كانت تُعرف بـ “قوى الحرية والتغيير”، الأسبوع الماضي في لندن، حيث زاروا، وفق خالد عمر، أحد أهم قيادات المجموعة وعضو الوفد، في صفحته على “فيسبوك”، الحكومة والبرلمان البريطانيين ومراكز صناعة الرأي، بهدف “لفت أنظار العالم إلى ما يدور في بلادنا”.
إذا كان الأمر كذلك، وكانت كل هذه الجولات لصالح عيون الشعب السوداني، ودفعاً لإيقاف الحرب، فما الذي يسبّب حالة الغضب التي تمظهرت في مشهد تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي لسودانيين وهم ينتظرون خارج القاعات من أجل التظاهر والهتاف ضد “تقدّم” ونعت أفرادها ورئيسها، رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، بأشنع الصفات؟
يمكن أن نجد الإجابة في منشور خالد عمر نفسه، الذي بدأه بحديث عن الأزمة الإنسانية في السودان، ووصفها بأنها الكارثة الأكبر على مستوى العالم، لأنها حوّلت 12 مليون سوداني إلى نازحين ولاجئين، ودفعت 25 مليوناً إلى حافّة الجوع. هذه توطئة جيدة ومقدّمة يمكن لها أن تنجح في لفت الانتباه، لولا أنها تتوقف هنا وتكتفي بنصف الحقيقة، فتحكي عن النزوح واللجوء من دون أن تتوسّع في شرح أسبابه، وتحكي عن عشرات الآلاف، الذين قتلوا، من دون تفصيل، تاركة الجرم مبنياً للمجهول وقافزة نحو الخلاصة البديهية التي لا يختلف عاقل بشأنها، أن السلام أفضل من الحرب.

المساواة بين طرفين مضلّلة، وإلا ما كنّا سنشاهد مشاهد الفرح لدى دخول الجيش إحدى المناطق

السودانيون الغاضبون من منهج “تقدم” في التعاطي مع الأزمة السودانية يعتبرون أن توصيفها للمأساة فيه خلل يرقى إلى درجة التواطؤ، فهم لا يرون أن أهلهم أُجبروا على ترك منازلهم بسبب شبح هلامي اسمه الحرب، وإنما لأن هناك مليشيا متوحشة أجبرتهم على الرحيل، من خلال ارتكاب انتهاكات مروّعة. لا يرى الغاضبون الحرب المجرّدة من أفقدتهم أموالهم وسياراتهم ومدخراتهم ومصادر رزقهم وحولتهم بين يوم وليلة إلى فقراء ونازحين، بل يوجّهون أصابع الاتهام إلى قوات محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي أسرفت في السرقة والاعتداء على الأموال العامة والخاصة وتخريب الممتلكات.
أولئك الغاضبون، الذين تزايدت أعدادهم بشكلٍ دفع رموز “تقدّم” إلى غلق خاصية التعليق على منشوراتهم أو تخصيصها للأصدقاء الموثوقين فقط، كان بعضهم من أنصار أحزابها، التي كانت تطرح نفسها ممثلة لـ”الثورة” وللمدنيين. كان ذلك الغضب نتيجة الإحباط جرّاء هذا الموقف الذي ما زال يتبنّى الحياد، زاعماً أنه لا يريد الاصطفاف مع أحد “طرفي الصراع”.
كان النأي بالنفس وإدانة جميع الأطراف موقفاً تبنّته منظمّات وجهات سياسية وحقوقية دولية منذ بداية الحرب، لكن المفارقة أن هذه الجهات عادت لتدين بأشد العبارات ما ترتكبه قوات حميدتي في أكثر من منطقة بالسودان، خصوصاً أن أولئك كانوا بالبجاحة إلى درجة توثيقهم جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب، ما جعل تلك الجهات مجبرة على إدانة هذه المليشيا.
بينما كان وفد “تقدّم” يناقش انشغالاته المتعلقة بما يسمّيها “استعادة المسار الديمقراطي”، كانت المجازر التي صدمت العالم تتواصل في شرق ولاية الجزيرة، التي شهدت إبادة وتهجيراً جماعياً لأهالي قرى ومناطق، في مقدمتها “السريحة” و”تمبول”، اللتان شهدتا أفظع الانتهاكات، وتوزّع أهلهما خلال أيام بين قتيل وجريح ومغتصب ومفقود. لم تجد هذه المأساة، على فداحتها، التفاتاً من قبل الذين يقولون إنهم بصدد نقل معاناة الشعب السوداني إلى العالم.
وفق الغاضبين، الرسالة، التي كانت تستحقّ أن تنقل إلى الطرف المعتدي والمجتمع الدولي، أن القرى الوادعة على ضفاف النيل وفي مناطق كـ”الجزيرة” و”سنار”، ليست طرفاً في أي معركة ولا تحوي أي أهمية عسكرية واستراتيجية حتى يجري استهدافها ومعاقبة سكانها، إلا إذا كان دافع هذه الجرائم يتجاوز منطق الصراع العسكري المزعوم، ليدخل في إطار النهب لمجرّد النهب والتصفية بغرض تطهير عرقي عنصري.
يتطلب توجيه مثل هذه الرسالة شجاعة، وهي رسالةٌ، على بساطتها وموضوعيتها، يرى فيها أعضاء “تقدّم” نوعاً من الاصطفاف مع الجيش السوداني، وهو اصطفافٌ يتناقض مع خطابهم ومطالباتهم بتجريد الجيش من سلاحه ومصادر قوته، وفرض حظر طيرانٍ يمنعه من تحقيق انتصار. لا يمكن لهذه المجموعة أن تنسى أن هذه القيادة العسكرية هي التي أنهت تمتّعهم بالسلطة، حينما قرّر رئيس مجلس السيادة فضّ الشراكة، التي تجمعه بالأحزاب، التي كانت تحتكر الفضاء السياسي، وتعامل الجميع بتعالٍ وكأنها سلطة منتخبة.

السودانيون الغاضبون من منهج “تقدم” في مقاربة الأزمة السودانية، يعتبرون توصيفها للمأساة فيه خلل يرقى إلى درجة التواطؤ

الرسالة الناقدة لما كانت تُعرف بـ”قوات الدعم السريع”، ويمكنها أن تقول بصراحة إن المساواة بين طرفين مضلّلة، وإلا ما كنّا سنشاهد مشاهد الفرح والاستبشار لدى دخول الجيش إحدى المناطق، ومشاهد الهرب والخوف والهلع في مناطق سيطرة “الجنجويد”. تتطلّب هذه الرسالة، بجانب الشجاعة، تخلصاً من أي ارتباط خارجي وانحيازاً حقيقياً للشعب، وهو ما لا يتوافر في مجموعة تفتخر بتمتعها برعاية دولية وفّرت لها الدعم والسند، وكانت ترى فيها شريكاً موثوقاً لحكم السودان.
رهان الغرب وبعض دول الإقليم على هذه المجموعة من أجل تحقيق مشروعهم في السودان لم يبدأ اليوم، وليس انفرادها وتحوّلها إلى ممثل وحيد للمدنيين خلال الفصل الأول من الفترة الانتقالية إلا مجرّد مثال على الاهتمام، الذي ظلت تحظى به، وتواصل حتى بعد خروجها من السلطة. هذه ليست مشكلة “تقدّم” الوحيدة، التي تجعلها عاجزة عن تبنّي الموقف، الذي ينتظره عامة المنكوبين، بل تظلّ معضلتها الأكبر هي العلاقة المريبة التي تربطها بحميدتي، الذي وقّعت معه، في ذروة هذه الحرب، اتفاقاً سياسياً.
اعتبر بعضهم التجمّع الغاضب، الذي فوجئ به أعضاء “تقدّم”، وهو يحاصر قاعات مناشطهم، فعلاً بلا معنى، لكنه، في الحقيقة، فعل ينطوي على رسائل كثيرة، من أهمّها أن هذه المجموعة لا تمثل كل السودانيين، وهي رسالةٌ نظن أنها وصلت إلى الفاعلين والداعمين.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى