حدود قدرات ألمانيا الدفاعية.. نقاش يتجدد عقب تصريحات ترامب
بين نايت – DW
أثارت تصريحات ترامب حول الناتو جدلا كبيرا في أوروبا وألمانيا إذ طالب ساسة وخبراء بضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي الألماني بشكل جذري، فيما ذهب آخرون إلى حد المطالبة بإعادة النظر في كسر “المحرمات النووية”، وهو موضوع جدلي آخر.
في حديث له خلال تجمع انتخابي في ولاية كارولينا الجنوبية بداية الأسبوع الحالي، زعم الأمريكي السابق دونالد ترامب أنه أخبر دول حلف شمال الأطلس (الناتو) خلال رئاسته، بأن الولايات المتحدة لن تدافع عن أي دولة تتعرض لهجوم من روسيا في حال تقاعسها عن الوفاء بالتزاماتها المالية حيال الحلف.
وقال ترامب: “وقف أحد رؤساء دولة كبيرة، وقال: حسنًا يا سيدي، إذا لم ندفع وتعرضنا لهجوم من روسيا، فهل ستحمينا؟ قلت: أنت لم تدفع، أنت متأخر عن السداد. قال: “نعم، لنفترض أن ذلك حدث”. (فقال ترامب) لا، لن أحميك. في الواقع، أود أن أشجعهم على فعل ما يريدون بحق الجحيم. عليك أن تدفع”. وأضاف الرئيس الأمريكي السابق أن الأموال “تدفقت بعد ذلك”.
ودفعت تصريحات ترامب العديد من السياسيين الألمان إلى زيادة الضغوط على المستشار أولاف شولتس لتعزيز الإنفاق الدفاعي عاجلا وليس آجلا رغم أن شولتس قد أعلن عن تدشين صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتحديث منظومة ألمانيا الدفاعية وذلك عقب الغزو الروسي لأوكرانيا أواخر فبراير / شباط عام 2022.
وفي رده، دعا رودريش كيسفيتر، المتحدث بشؤون الدفاع عن الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض، إلى مضاعفة قيمة الصندوق ثلاث مرات.
وقال أندرياس شوارتز، المتحدث باسم شؤون الميزانية في حزب الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة شولتس، إن “إعفاء كافة أشكال الإنفاق الدفاعي من (نظام) كبح الديون سيكون له سحره من المؤكد.”
“تسديد الفواتير”
لكن حالة الجدل التي أثارتها تصريحات ترامب ليست بالجديدة إذ يتفق معظم الخبراء على أن المؤسسة العسكرية الألمانية تحتاج إلى المزيد من الأموال.
وقد ظهر ذلك جليا في تقرير رسمي صدر في مارس / آذار الماضي عن مفوضة الجيش الألماني للشؤون البرلمانية، إيفا هوجل، التي تنتمي إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي، حيث قالت إن القوات المسلحة الألمانية “تحتاج إلى 300 مليار يورو لتلبية احتياجاتها، لأسباب ليس أقلها استنفاد مواردها من أجل المساعدة في تسليح أوكرانيا.”
وقال رافائيل لوس، المتخصص في الشؤون الدفاعية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، “إن الأمر ليس سوى أن تصريحات ترامب الصارخة ذكّرت الناس بالمخاطر التي ينطوي عليها الأمر”.
ويقول خبراء إن ألمانيا يمكنها القول بأنها “تسدد الفواتير” كما طلب ترامب. فرغم أن تصريحات الرئيس الأمريكي السابق مضللة، إلا أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) يتلقى بعض المساهمات مباشرة، لكنه ليس ناديا يجب على الدول الأعضاء فيه دفع ثمن العضوية.
يشار إلى أنه عام 2014، وافق وزراء دفاع دول الناتو على إلزام الدول الأعضاء بإنفاق ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع كل عام. ورغم أن ألمانيا لم تحقق هذا الهدف في السابق، إلا أن شولتس أكد مجددا التزامه بالوفاء بهذا التخصيص من الآن فصاعدا.
ويعزو الخبراء ذلك إلى الصندوق الخاص لتحديث الجيش الألماني بقيمة مئة مليار يورو الذي من المقرر أن يتم إنفاقه بحلول عام 2028. وتشير التقديرات إلى إمكانية حدوث عجز قدره 56 مليار يورو في ميزانية الدفاع السنوية لألمانيا بعد هذا الإنفاق فيما يكمن الحل في تخفيف نظام كبح الديون في الميزانية.
واليوم (14 فبراير/شباط 2024) كشف تقرير صحفي لوكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) أن برلين أبلغت حلف (الناتو) أن إنفاقها الدفاعي المقرر سوف يصل على الأقل إلى 2% من إجمالي الناتج المحلي . وحسب التقرير فقد خصصت الحكومة الألمانية 73,41 مليار دولار من أجل الإنفاق على مجال الدفاع، وهذا يعد رقمًا قياسيًا بالنسبة لألمانيا، كما أنه يمثل 2,01% من إجمالي الناتج المحلي، وفقًا لتوقعات الناتو الحالية.
بيد أن الخبراء العسكريين يقولون إن مشكلة الجيش الألماني لا تنحصر في حجم الميزانية، وانما في كيفية الإنفاق وموعده. وفي ذلك، قال رافائيل لوس إن “بعض المشاكل التي نعاصرها الآن مع الصندوق الخاص تتمثل في أن إنفاق هذا المبلغ الهائل سوف يستغرق وقتا”.
وكان مكتب المستشار الألماني قد ذكر أن سبعين مليار يورو من الصندوق الخاص خُصصت بالفعل لشراء طائرات عسكرية جديدة من طراز “إف- 35” و مروحيات النقل العسكري الثقيلة من طراز شينوك.
الحماية النووية
وفي الوقت نفسه، قال وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس مؤخرا إن الناتو يجب أن يستعد لاحتمال قيام روسيا بمهاجمة إحدى دوله خلال السنوات الخمس إلى الثماني المقبلة.
ومع احتمالية وصول ترامب إلى البيت الأبيض مجددا، حث بعض الساسة في الاتحاد الأوروبي على ضرورة امتلاك التكتل مظلة ردع نووي خاص به.
وتعد فرنسا الدولة الوحيدة داخل الاتحاد الأوروبي، التي متلك سلاحا نوويا فيما وقعت ثلاثة دول من التكتل وهي النمسا وأيرلندا ومالطا على معاهدة الحظر النووي التي تم اعتمادها عام 2017 ودخلت حيز النفاذ عام 2021.
وتنص هذه المعاهدة على فرض حظر شامل على الأسلحة النووية، حيث يلتزم الموقعون بعدم تطوير الأسلحة النووية أو اختبارها أو إنتاجها أو اقتنائها أو امتلاكها أو تخزينها أو استخدامها، أو حتى التهديد باستخدامها.
وفي مقابلة مع صحيفة “تاغيس شبيغل” الألمانية، قالت كاتارينا بارلي، وزيرة سابقة ومرشحة رئيسية للحزب الاشتراكي الديمقراطي لخوض الانتخابات الأوروبية المقررة منتصف العام الجاري، إنه في ضوء تصريحات ترامب الأخيرة، فإن احتمال امتلاك أوروبا أسلحة نووية “قد يصبح أمرا إشكاليا”.
من يصدر قرار استخدام السلاح النووي؟
ويبدو أن تصريحات بارلي تسلط الضوء على أن الأمر ليس بهذه السهولة فحتى في حال امتلاك الاتحاد الأوروبي السلاح النووي، فمن المنوط به إعطاء الإذن باستخدامه؟ هل رئيس المفوضية؟ أم رئيس المجلس الأوروبي؟ أم البرلمان الأوروبي؟ أم كافة حكومات الدول الأعضاء في التكتل؟، حسبما تساءل لوس.
وأضاف “هذا هو حجم المشكلة. لا أرى حرفيا أي مستقبل يستطيع فيه الاتحاد الأوروبي – بشكله الحالي – توفير نظام ردع نووي موثوق به. عندما نتحدث عن الردع النووي، فإن الأمر برمته يتعلق بالمصداقية”.
يشار إلى أنه في الولايات المتحدة فإن الرئيس الأمريكي هو وحده المخول بإصدار قرار استخدام أسلحة نووية موجودة في ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا فيما يتعين على هذه الدول الموافقة على إلقاء القنابل بواسطة مقاتلاتها، لكن قبل ذلك يتعين مشاورة أعضاء حلف الناتو الآخرين داخل “مجلس شمال الأطلسي” الذي يعد أعلى هيئة منوط بها في اتخاذ القرار السياسي في الحلف.
وفي فرنسا، فإن الرئيس هو المسؤول الوحيد الذي يقع على عاتقه اتخاذ قرار باستخدام السلاح النووي وكذلك في بريطانيا فإن القرار يصدره فقط رئيس الوزراء فيما تعد المراكز الثلاثة لاتخاذ القرار بشأن السلاح النووي عنصرا هاما للردع في أوروبا، لأن من شأنها دفع أي عدو إلى التفكير مجددا في كيف سيكون رد فعل الناتو قبل قيامه بشن أي هجوم نووي.
ألمانيا والمحرمات النووية
وبعيدا عن تعقيدات استخدام السلاح النووي، يقول خبراء إن هذا الطرح يثير قضية أخرى تتمثل في الدولة التي سوف تزود الاتحاد الأوروبي بالأسلحة النووية. وفي ظل أن فرنسا لم تعرض حتى الآن توسيع قوة الردع النووية الخاصة بها لتشمل حماية دول الاتحاد الأوروبي، فإن هذا الأمر سوف يفرض على دولة أخرى في التكتل – مثل ألمانيا – امتلاك أسلحة نووية.
لكن في ظل الظروف الحالية، يبدو هذا الاحتمال غير مرجح حدوثه في المستقبل المنظور.
ماذا يقول التاريخ؟
تاريخيا، كان الحظر الذي فرضته ألمانيا على نفسها على الأسلحة النووية مرتبطا بحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية والدور الذي لعبته ألمانيا الغربية في الاستراتيجية الدفاعية لحلف الناتو.
فمن أجل الحد من انتشار الأسلحة النووية، منحت حكومة الولايات المتحدة ألمانيا الغربية ضمانات أمنية وبعض الأدوار في توفير الطائرات اللازمة لإيصال الأسلحة النووية.
وفي المقابل، تعهدت ألمانيا بالعديد من الالتزامات، بما في ذلك معاهدة “اثنان زائد أربعة” التي تم التوقيع عليها في 15 آذار/مارس عام 1991 التي استعادت ألمانيا بموجبها سيادتها الكاملة، حيث حافظت ألمانيا الموحدة على عضويتها في حلف الناتو.
والتزامت ألمانيا بموجب المعاهدة بعدم حصولها على أسلحة نووية أو تصنيعها ما يعني أن خرق المعاهدة سوف يخلق مشاكل دبلوماسية كبيرة.
وقال لوس إنه في ظل السياق الحالي، “لا أرى أي سبب يدفع ألمانيا إلى امتلاك أسلحة نووية بنفسها لأن هناك أسباب وجيهة لعدم القيام بذلك إذ سيؤدي ذلك إلى تعطيل كبير للنظام النووي العالمي بما ينذر بانتشار الأسلحة النووية في أجزاء أخرى من العالم فضلا عن أنه قد يعرض ألمانيا لنظام عقوبات دولية صارمة وهذا من شأنه أن يضع ألمانيا في موقف مرعب”.