رأي

حدود التعاون بين الصين وروسيا

كتب د. ناصر زيدان في صحيفة الخليج.

هناك خصوصيات للعلاقة بين بكين وموسكو جديرة بالتوقُّف عندها، لاسيما في هذه المرحلة التي تحكمها أوضاع استثنائية، من حيث الاضطرابات الحاصلة في العلاقات الدولية، ومن حيث حجم التداخُلات بين الدول، خصوصاً بين القوى الكبرى المؤثرة، بسبب التقارُب الذي فرضته التكنولوجيا الحديثة وتطور وسائل الاتصال والنقل، حيث تحوَّل العالم إلى «قرية كونية» واحدة، لا يمكن ضبط منافذها المُشرَّعة، وهي تفرض نمطية جديدة من التعاون، تختلف عن نمطيات العقود السابقة.
حجم تأثير روسيا والصين في العلاقات الكونية، لا يمكن إغفاله، أو القفز فوقه، ولكن القوة المؤثرة لهما لم توضع حتى الآن في سلَّة واحدة، وهي ليست موجهة بالضرورة ضد اللاعبين الآخرين الكبار على الساحة الدولية. فالصين لم تخرُج من المربع الدبلوماسي والتجاري في علاقاتها الخارجية، برغم المكانة العسكرية المتنامية التي تتمتّع بها، بينما روسيا تخلَّت عن دور المنافس اللدود للولايات المتحدة الأمريكية، لكنها احتفظت بعوامل القوة الاستراتيجية التي تمتلكها، من دون أن تنخرط في محاور خارجية مُقيِّدة.
أعاد الرئيس الصيني تشي جين بينغ تأكيد الشراكة الاستراتيجية التي تحكم علاقات بلاده مع روسيا بموجب معاهدة العام 2019، ومشاركته في احتفالات النصر على الفاشية التي نظمتها روسيا في 9 أيار/مايو 2025 لها دلالات كبيرة، وفيها رسالة واضحة لواشنطن، لكن الشراكة لم تتحوَّل إلى حلف عسكري، ومعاهدة الصداقة المتطورة بين البلدين، لم تلحظ «دفاعاً مشتركاً» برغم شمولها للتعاون في كل المجالات، بما في ذلك في المجال العسكري. ومن الواضح أن توقيت زيارة جين بينغ إلى موسكو مدروس بعناية، لأنه جاء في ذات التوقيت الذي حصل فيه غزل سياسي رفيع بين إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكل من الرجلين أهدافه الخاصة من وراء هذا الغزل، الذي لم يثمر حتى الآن وقد يتحول إلى نقيضه.
الرئيس ترامب يحاول من دون هوادة زرع بعض الشكوك في سجل العلاقة بين بكين وموسكو، وهو يعمل بكل جهد لتحييد روسيا عن الصين في الحسابات الكبيرة، والهدف استفراد الأخيرة، كونها المنافس المستقبلي الأهم للطموحات الأمريكية على المستويات التجارية والعسكرية والاستراتيجية الأخرى. لكن الرئيس بوتين لم يعطِ واشنطن فرصاً للتشويش على علاقته مع الصين، برغم أنه حريص على التعاون مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو استفاد من سياسة الرئيس ترامب إلى أبعد الحدود، لا سيما في ملف حربه الدائرة في أوكرانيا، وغالبية التواصل الذي حصل بين الفريقين في هذا المجال، هدف إلى إضعاف موقف الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، ولم تقدِّم موسكو أية تنازلات للوصول إلى وقف إطلاق النار، أو إنهاء الحرب، كما يرغب الرئيس ترامب. حتى أن المكالمة الهاتفية الطويلة التي حصلت بين ترامب وبوتين الأخيرة كانت جافة، كما قال ترامب ذاته، بينما تمسَّك بوتين بسلَّة المطالب التي لا تلحظ أي تنازلات لصالح كييف. لكن لم تحصل قطيعة بين الفريقين، وتجاوبت موسكو مع طلب واشنطن استئناف الحوار المباشر مع كييف في إسطنبول بحلقته الثالثة.
حدود التعاون بين روسيا والصين واسعة جداً كما الحدود الجغرافية التي تتجاوز 4200 كلم، وهي وصلت إلى مراحل متقدمة في المجالات السياسية والأمنية والنفطية والعسكرية، حيث ناهز التبادل التجاري في العام 2024 مبلغ 200 مليار دولار، لكن سقف العمل المشترك محكوم بعدم وجود اتفاقية دفاع مشترك كما هي عليه الحال بين روسيا وكوريا الشمالية، وأسباب عدم وجود مثل هذه المعاهدة، لا تتعلَّق بإخفاق الطرفين في الوصول إلى هذه النتيجة، بل برغبة مشتركة بتوزيع الأدوار وبعدم العودة إلى سباق التسلَّح في العالم، لأن مثل هذا الحلف سيثير خشية الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وغالبية الدول الأوروبية. ويساعد على استمرار هذه الوضعية بينهما، وجود تباينات موروثة منذ أيام الحرب الباردة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، برغم أن الفريقين كانا ينتميان إلى معسكر شيوعي واحد.
التنسيق بين موسكو وبكين قائم في مجلس الأمن الدولي، وحول ملفات أخرى ساخنة، وموقفهما متقارب في التضامن مع القضية الفلسطينية وفي إدانة العدوان الإسرائيلي، وهما صوّتا مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي طالب بوقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة بتاريخ 12حزيران/يونيو 2025 إلى جانب 149 دولة عضواً في الهيئة الدولية، كذلك كان موقف البلدان تجاه تأييد القرارات المماثلة التي عرضت على مجلس الأمن وأجهضتها «الفيتوات» الأمريكية. وفي الحرب بين إسرائيل وإيران التي استمرَّت 12 يوماً، دان البلدان العدوان الإسرائيلي، من دون أن يتخذا أي إجراءات مُساندة لإيران، برغم التعاون الكبير القائم بينهما وبين طهران.
يمكن التأكيد أن روسيا والصين لا تريدان العودة إلى سياسة الأحلاف القديمة، برغم أن سياق العلاقة بينهما يؤكد إمكانية تحويل التعاون الاستراتيجي إلى حلف عسكري إذا فرضت الظروف. والصين تعرف أن واشنطن تحاول تطويق اندفاعاتها بأي ثمن، وروسيا تعرف أيضاً أن هزيمة الصين أمام الطموحات الأمريكية سيحولها إلى ضحية مستفردة في المستقبل.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى