رأي

حاجتنا إلى أصوات الضمير في‮ ‬الغرب وإسرائيل

كتب عبد الحميد اجماهيري في صحيفة العربي الجديد.

عندما‮ ‬يستنكف‮ ‬الضمير العالمي‮ ‬عن تسمية الإبادة باسمها ‬يكون قد اختار،‮ ‬بوعي‮ ‬شقي‮ أن‮ ‬يتنكر لإنسانيته‮، ‬وذلك ما‮ ‬يبدو جليّاً في‮ ‬ما تعرفه‮ ‬غزّة من إبادة معلنة‮، فبالرغم من حالة الاستعجال الدائمة ‬نلاحظ، بأسى كبير، ‬أن تردّد الضمير العالمي‮ ‬في‮ ‬تسمية الإبادة إبادة ما زال طابعه‮ ‬يُرخي‮ ‬بظلاله على المناخ الدولي،‮ ‬كما أنه‮ ‬يعطّل القرار الدولي‮ ‬النافذ بهذا الخصوص‮.‬
‮ومع ذلك،‮ ‬ومن حسن الحظ، أن القضية بدأت تضع نفسها‮ ‬ضمن حالات الاستعجال الكونية راهناً،‮ ‬على مستوى الضمير، وإِنْ‮ ‬كانت‮ دائرة تأثيره‮ ‬دون المطلوب،‮ ‬وما‮ ‬يجب أن‮ ‬ينجم عنه من قرارات‮ ‬ومواقف‮،‮ ‬إزاء وقف الحرب،‮ ‬‬في‮ ‬موازاة‮ تحرّك دولي‮ ‬متصاعد بشأن ما‮ ‬يجب فعله لإقامة‮ “‬دولة فلسطين‮” الحرّة، التي‮ ‬تنتظر منذ قرار التقسيم (7491)‮. ‬وهما مساران قد‮ ‬يبدوان متكاملين بالنسبة للمتفائلين وعشّاق التاريخ السياسي‮ ‬للحروب التحرّرية، لكنهما‮ ‬يبدوان متعاكسين،‮ ‬يلغي‮ ‬الواحد منهما الآخر،‮ ‬منظوراً إليهما من زاوية الاستعجال الكارثي،‮ ‬كما قد‮ ‬يلخّصها السؤال‮: ‬هل‮ ‬يكون العمل على ميلاد الدولة،‮ ‬في‮ ‬الوقت الراهن طريقة للهروب من استعجالية وقف‮ الحرب وملازمتها‮ (‬الإبادة‮) ‬وفتح الطريق نحو وصول الخبز إلى المحتضرين؟‮‬

يقارن المؤرّخ عمير بارتوف بين الشباب في إسرائيل اليوم وشباب ألمانيا النازية بالأمس في تبرير الإبادة

‮ ‬وعلى كلٍّ،‮ ‬هناك دينامية فلسطينية في‮ ‬وعي‮ ‬العالم ومن أهم ما‮ ‬يحدث فيها،‮ ‬واقعيا هي ‬التحوّلات التي‮ ‬تمس جوهر الموقف العالمي‮: ‬ونتابع مواقف‮ دول تتنقل من دعم لامشروط لحكومة نتنياهو وجيشه‮ ‬إلى حاملة للراية الفلسطينية، كما فرنسا وجزء مهم‮ ‬من أوروبا،‮ ‬والتحاق دولة الوعد البلفوري‮ ‬المملكة المتحدة،‮ ‬بقوة هذا الدعم،‮ ‬ورأي‮ ‬عام أكثر حماسا في‮ ‬مواجهة‮ ‬وحشية‮ ‬الاحتلال الإسرائيلي،‮ ‬ويسار داخل معسكر السلام الإسرائيلي‮ ‬بدأ في‮ ‬النهوض،‮ ‬بعد أن كانت قوته قد ابتلعتها الموجة الدينية التلمودية داخل المجتمع وأبعدته كليّاً،‮ ‬من خلال جمعيات شجاعة ومؤرّخين لهم تاريخ خاص في‮ ‬دراسة‮ ‬المحرقة، من قبيل‮ ‬عمير بارتوف وعاموس‮ ‬غولدبرغ‮ وجمعية بتسليم‮.
‬وهناك الأصوات العادلة‮‬،‮ ‬ومنها صوت فيليب دوفيلبان الذي‮ ‬يبدو أنه‮ ‬يحمل القضية ‬عنواناً لضميره، ومشروعاً سياسياً‮ ‬لتحرير أوروبا من المشروع الأميركي‮ ‬العسكري‮ ‬التلمودي.‮.. ‬وهو‮ ‬يبدو في‮ ‬معاركه الإعلامية داخل الوسط الفرنسي‮ ‬مثل سيزيف‮ “‬يحمل شمسا متعبة فوق ظهره‮”. وهو من المدافعين عن إعادة تسمية الأشياء بطريقة صحيحة، ولعلها طريقة في‮ ‬رفع بؤس العالم الذي‮ ‬أبعدته مفاهيم الإعلام البديل‮ ‬عن الحقيقة‮… ‬والسردية الجديدة المتفرّعة عن موازين القوة والتجديد المستمر لعقدة الذنب الأوروبية‮ أو الأوروـ أميركية إزاء‮ ‬إسرائيل الموروثة عن‮ … ‬النازية‮!‬ وهاته المفارقة وحدها صارت تتطلّب التفكير العميق في‮ ‬مصير الوعي‮ ‬العالمي‮،‮ ‬و‮تستحقّ أن‮ ‬يتحدّث فيها كتّاب الوعي‮ ‬والفلسفة وحرّاس الضمير الكوني‮، ‬ويتساءلوا عنها‮: ‬كيف تصبح دول‮ ‬الغرب الجديد‮‬،‮ ‬المنبثقة عن فكرة مقاومة النازية الرهيبة‮ ومحاربة الإبادات،‮ رهينة عقدة الذنب إزاء الممارسات‮ نفسها، ‬وعاجزة عن النظر مجدّداً في‮ ‬الهاوية التي‮ ‬سبق أن هزّت كيانها ووجودها الإنساني‮ ‬برمته في‮ ‬منتصف القرن الماضي؟
‬ووسط هذا التنكّر لهوية الإنسان الحر،‮ ‬الوارث للمقاومة في‮ ‬وجه الإبادات،‮ ‬ارتفعت أصوات الاستنكار‮، وسعت إلى استعادة صوتها بعد الصمت المشبوه، كما وصفته‮ الحاخام الفرنسية ديلفين هورفييور‮ ‬التي‮ ‬نشرت نداء بيانا في‮ ‬مايو/ أيار‮ ‬الماضي،‮ ‬تعيب فيه على نفسها بأنها سكتت،‮ “‬ثم قرّرت أخذ الكلمة مجدّداً أمام حلم نتنياهو بإعدام شعب آخر في‮ ‬غزّة”.
لا أحد‮ ‬يشك بأن كثيرين ممن‮ ‬يقاومون النزوع النازي‮ ‮‬يكون‮ “‬حبّهم‮” ‬إسرائيل الدافع والمحفّز بشكل كبير،‮ ‬ومن زاوية الخوف، ما‮ ‬يؤدي‮ ‬إليه‮ “‬الإفلاس الأخلاقي‮” ‬الذي‮ ‬تعيشه‮ ‬والانزلاق السياسي‮ ‬الذي‮ ‬تتدحرج فيه. جاء متأخّراً جدّاً‮، كما هو الموقف من الدولة الفلسطينية مع وجود الفارق‮! ‬وقد انتظر‮ الفلسطينيون طويلاً، وفي‮ ‬طوابير من الشهداء‮،‮ ‬أمام الأمم المتحدة ميلاد دولتهم‮.‬ كما تألمنا كثيراً لكون ‬الضمير العالمي‮ ‬يبيت سهران ‬طويلا أمام شاشات التقتيل‮، ويستيقظ متأخّراً في‮ ‬الوعي‮ ‬الموالي‮!‬

أصرّ إدوارد سعيد على ضرورة مخاطبة الضمير العالمي لنصرة فلسطين

‮ولا أحد منا‮ ‬يشك بأن‮ ‬حالة الاستعجال هي‮ ‬وقف الحرب، وقف الإبادة ووقف المجاعة والتقتيل،‮ ‬ثم الذهاب إلى دولة الحل الأسمى‮. ‬ومع ذلك، أينما يستيقظ الضمير‮ ‬الحي‮ تستيقظ معه البداهة التراجيدية،‮ التي‮ ‬بمقتضاها‮ صارت‮ ‬غزّة أقسى ما كتب الله في‮ ‬رثاء الأرض‮!‬
لا‮ ‬يمكن أن نسقط‮ ‬في‮ ‬السجال القطعي،‮ ‬سيّما وأننا في‮ ‬معركة الوعي‮ ‬العالمي‮ ‬نتابع تبلور تيار داخل إسرائيل،‮ ‬بعيداً بهذا القدر أو ذاك عن أسر المحتجزين التي‮ ‬تدور معركتها حول إطلاق أبنائها،‮ ‬ومنهم من ذكره رئيس الوزراء الفرنسي السابق، فيليب دوفيلبان،‮ ‬‬في‮ ‬مقالة له،‮ ‬متحدّثاً عن أشخاص لهم الشجاعة الكافية ليكونوا ضد التيار،‮ ‬ومنهم الأميركي الإسرائيلي عمير بارتوف الذي‮ ‬يعدّ أحد المؤرّخين المعروفين دولياً في‮ ‬دراسة تاريخ‮ الإبادة‮. ‬يوجد في‮ ‬تقاطع الدرعين العسكريين أميركا وإسرائيل‮،‮ ‬تعتبر المحرقة‮ ‬تخصّصه ومجال شهرته،‮ ‬سبق له أن شارك في‮ ‬حرب‮ ‬3791‮. ولهذا‮ ‬يملك براءة الشهادة ضد‮ العماء السياسي‮، ‬ويعبّر عن رعبه مما شاهده في‮ ‬غزّة‮.. ‬ولم‮ ‬يكتف‮ بالحديث عن‮ ‬جرائم الحرب‮ ‬وجرائم ضد الإنسانية‮ ‬وأفعال الإبادة‮ ‬الممنهجة‮. ‬وقف هو نفسه ضد محاولة تلبيس الحقّ في‮ ‬اتهام كل من‮ ‬يهاجم إسرائيل في‮ ‬هاته الحرب أنه موسوم بمعاداة السامية‮! ومن قوة المحاججة به أنه تعرّض في‮ ‬كتابه‮ “الجبهة الغربية‮” ‬للشحن الأيديولوجي‮ ‬للجيش الألماني‮ ‬في‮ ‬الحرب العالمية الثانية‮،‮ ‬ويقارن ذلك‮ ‬مع ما‮ ‬يحدث في‮ ‬إسرائيل اليوم‮. وهو شخصية علمية جامعية‮ ‬كان قد وقف في‮ ‬وجه‮ ال‬دعوة إلى “تكسير العظام‮”‮ ‬الذي‮ ‬أمر به وزير الحرب، إسحاق رابين، ضد أطفال الانتفاضة‮ الأولى في‮ ‬نهاية 7891‮، ‬وكان وقتها أستاذاً في‮ ‬جامعة تل أبيب، وراسل الوزير رابين، ليحذّره‮ ‬مما رأى‮ ‬في‮ ‬دعوته‮، وما‮ “‬يذكّره بالشحن الأيديولوجي‮ ‬النازي‮ ‬في‮ ‬بدايته‮”، ‬واستعرض كذلك‮ ‬فكرة‮ “‬المجال الحيوي‮” ‬التي‮ ‬اعتمدها الجيش الألماني‮ ‬في‮ “‬تحديد الشعوب التي‮ ‬يجب أن تنقرض”! وكان ردّ رابين على ‮”‬مشابهة الجيش الإسرائيلي‮ ‬بالجيش النازي‮”. ويرى هذا المؤرّخ‮ ‬أن الحرب أصبحت‮ ‬غاية في‮ ‬حد ذاتها‮: ولا وجود لهدف سياسي‮ ‬يمنع تحوّل النزاع الحربي‮ ‬إلى‮ “‬تدمير بلا حدود”، ‬إضافة إلى انتقاد‮ “‬أغلبية الإسرائيليين‮ ‬الذين لا‮ ‬يريدون الحديث عن‮ ‬غزّة، بل‮ ‬لا‮ ‬يودّون حتى معرفة ما‮ ‬يجري فيها”، ‬وأن أي‮ ‬حديثٍ عن‮ ‬الضحايا ما هو إلا‮ ‬دعاية‮ ‬من العدو‮ ‬أو من وسائل الضغط الدولي. وهو عكس ما تم مثلاً بعد حرب بيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا‮ في صيف 2891.

لا أحد‮ ‬يشك بأن كثيرين ممن‮ ‬يقاومون النزوع النازي‮‮ ‬يكون‮ “‬حبّهم‮” ‬إسرائيل الدافع والمحفّز بشكل كبير،‮ ‬ومن زاوية الخوف

وقوة الصوت الطالع من‮ “‬تاريخ المحرقة‮”‬،‮ ‬والذي‮ ‬يمثله المؤرخ عمير بارتوف وزميله عموس‮ ‬غولدبيرغ‮ ‬هي هذا التقابل الذي‮ ‬يقيمه بين‮ “شباب إسرائيل اليوم وشباب ألمانيا النازية البارحة في‮ ‬تبرير الإبادة وإعطائها الشرعية”. وفي‮ ‬التشابه الذي‮ ‬تكشفه صورة النازي‮ ‬عن نفسه،‮ ‬صورة الجندي‮ ‬الإسرائيلي‮ ‬عن نفسه أيضاً، حيث‮ يقول‮ ‬صاحبنا إن هذه‮ ‬الصورة‮ ‬ترسم صورة‮ الآخر،‮ ‬الفلسطيني‮ ‬هنا،‮ ‬باعتاره‮ ‬فصيلة “تحت إنسانية‮”. ويورد المؤرخ مثال المنشورات ضد الروس التي‮ ‬كان النازيون يوزعونها،‮ ‬و‬اعتبرت وصف الروس بالحيوانات إساءة‮.. ‬للحيوانات (!).
ولا‮ ‬يكتفي‮ ‬أهل الرأي‮ ‬الذين‮ ‬ذكرناهم،‮ ‬في‮ ‬الغرب أو في‮ ‬قلب إسرائيل بالكتابات المبدئية من بعيد، بل امتلكوا الشجاعة في‮ ‬الذهاب إلى الجامعات‮ (‬مثل جامعة‮ ‬بيرشيبا‮)، ‬ومواجهة الطلبة الغاضبين ومناصري نتنياهو‮ ‬ومواجهة‮ “‬التوافق‮ ‬الأيديولوجي‮” ‬أو التسوية الأيديولوجية التي‮ ‬يُحتضن بها جيش إسرائيل‮ ‬في‮ ‬حربه على‮ ‬غزّة‮. ‬كما فيها مواجهة ونقد ذاتي‮ ‬حقيقيان،‮ ‬يتراجع بواسطتها عمَّا ‬كتبه هو شخصيا في‮ ‬نوفمبر/ تشرين الثاني‮ ‬2023‮ ‬في‮ “‬نيويورك تايمز‮”، عندما قال إنه‮ “لا‮ ‬يملك أي‮ ‬دليل‮ ‬على وجود إبادة في‮ ‬غزّة”، ‬كأنه صار مقتنعا بأن الإبادة قائمة‮ ‬كما عرَّفتها الأمم المتحدة سنة‮ 4891،‮ ‬أي‮ ‬وجود‮ “‬نية التدمير الشامل أو الجزئي‮ ‬للسكان‮ ‬أو التسبّب في‮ ‬خسائر كبرى‮”، ‬وفي‮ ‬ظروف وجود‮ ‬تؤدّي‮ ‬الى تدمير‮ ‬غزّة‮. ‬
لعلنا هنا نستحضر إدوارد سعيد،‮ ‬وإصراره ‬على ضرورة مخاطبة الضمير العالمي،‮ ‬والشارع في‮ ‬الغرب الأورو أميركي‮ ‬أساسا،‮ ‬وعموم المعمورة من أجل نصرة القضية الفلسطينية‮.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى