شؤون دولية

جنوب السودان.. هل يبتعد عن السلام؟

عندما نالت استقلالها في 9 يوليو 2011 توقع لها الجميع أن تكون «سويسرا إفريقيا» وأن اقتصادها يمكن أن يكون أحد «النمور الاقتصادية» الإفريقية الصاعدة، مساحتها الواسعة التي تزيد على 630 ألف كلم، وشعبها الذي لا يتجاوز 12 مليون نسمة، وعلاقة نخبتها السياسية الوثيقة بالعالم الغربي جعلت الأحلام حول أحدث دولة تنضم للأمم المتحدة في عنان السماء.

لكن لم يمر عامين على الاستقلال، وفي عام 2013 تلقى كل الذين دعموا هذه الدولة صدمة غير مسبوقة، عندما شاهدوا رفاق الدرب الذين حاربوا في خندق واحد لأكثر من 40 عاماً يتقاتلون، ويدخلون في حرب أهلية قتلت أكثر من 400 ألف شخص، وملايين اللاجئين الذين فروا إلى الخارج من جديد بعد أن كانت كل الأماني تقول بأن الذين فروا خارج البلاد منذ عام 1984 يمكن أن تنتهي مأساتهم في اللجوء إلى الأبد، ويعودوا إلى بلادهم ويتمتعوا بالمواطنة والسلام والاستقرار الذي تحملوا من أجله الكثير، وبعد محاولات كثيرة في عامي 2015 و2016 نجحت جهود المجتمع الدولي من جديد في وقت الحرب الأهلية عام 2018، وهنا عادت الآمال من جديد بتجاوز مرارات الحرب الأهلية، وطيّ صفحة الماضي، وبدء مرحلة جديدة يكون عنوانها التسامح والتسامي على الماضي والجراح القديمة

رغم وقوع الكثير من المشاكل الأمنية وتعطل التنمية الاقتصادية منذ توقيع اتفاقية السلام عام 2018 إلا أن الصوت الغالب خلال السنوات السبع الماضية كان يقول يكفي البلاد أنها خرجت من دوامة العنف، وتدريجياً يمكن أن تستعيد عافيتها الاقتصادية إلى أن جاء شهر فبراير الماضي وعاد العنف يُطل من جديد من نفس المكونات، وبذات الأسباب والدوافع التي اندلعت بسببها الحرب الأهلية عام 2013 وهو ما دفع الجميع في إفريقيا والعالم العربي والأمم المتحدة للضغط على كل الأطراف بهدف عدم الانزلاق من جديد لدوامة العنف والعنف المضاد

أتحدث عن دولة جنوب السودان التي تم توقيف نائب الرئيس رياك مشار وعدد من أنصاره نهاية شهر مارس الماضي بتهمة الوقوف وراء عمليات العنف التي قام بها ما يسمى «بالجيش الأبيض» في ولاية أعالي النيل الشمالية، حيث يتهم الرئيس سلفا كير ميارديت رئيس جنوب السودان نائبه رياك مشار بدعم التمرد الذي يقوم به «الجيش الأبيض» في أعالي النيل وقتل فيه عدد كبير من المؤيدين لسلفا كير، ودفعت هذه الأحداث الولايات المتحدة وبريطانيا ودول غربية أخرى إلى تقليص عدد بعثاتها الدبلوماسية في جوبا عاصمة جنوب السودان، ومع تنامي الاحتقان السياسي والتصعيد العسكري بين الموالين لسلفا كير ومشار يخشى الجميع في إفريقيا والإقليم العربي والأمم المتحدة انزلاق جنوب السودان من جديد لدوامة من العنف، والتي يمكن أن تقود لارتكاب مجازر جديدة على غرار ما جرى عام 2013، كما تخشى دول الجوار من تدفق ملايين اللاجئين عليها من جديد، فضلاً عن التأثير الكارثي لعودة الحرب الأهلية في جنوب السودان على السلام والاستقرار الهش في منطقة القرن الإفريقي، وكثير من القوى السياسية في جنوب السودان اعتبرت أن القبض على رياك مشار هو دفن لاتفاق السلام الذي أنهى الحرب الأهلية في عام 2018، وفق ما قاله نائب رئيس حزب المعارضة، أويت ناثانيال بيرينو، وكل هذا يطرح سلسلة من التساؤلات حول الأسباب الحقيقة لهذا الصراع؟ وهل هو صراع شخصي بين رجلين «سلفا كير – رياك مشار» يعتقد كل منهما بأنه الأحق وحده لحكم جنوب السودان أم أن الصراع أشد تعقيداً من المصالح الخاصة؟ وماذا عن دور الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية التنمية في شرق إفريقيا «الإيجاد»؟

5 أسباب للصراع:

أولاً: التنافس القبلي

ينتمي طرفا الصراع إلى أكبر مجموعتين عرقيتين في البلاد، وهو ما يسهم في تغذية الصراع، حيث ينتمي الرئيس سلفا كير ميارديت إلى «قبائل الدينكا»، وهي أكبر القبائل في جنوب السودان وتمثل نحو 35.5 من سكان البلاد، بينما ينتمي نائبه الأول رياك مشار إلى ثانية أكبر القبائل وهي «قبائل النوير» التي تمثل نحو 16% من السكان، ويشتكي مشار وقبائل النوير من إقصائهم وتهميشهم من الحياة السياسية والاقتصادية، وعندما اندلع القتال في ديسمبر 2013 كان بسبب إلقاء القبض على نائب الرئيس رياك مشار في يوليو من نفس العام، وخلال الفترة من 2013 وحتى 2018 كان القتال يدور بشكل رئيسي بين قبائل الدينكا من جانب، وقبائل النوير من جانب أخر، وفي الصراع الجاري حالياً في أعالي النيل تتهم الحكومة بقيادة الرئيس سلفا كير قبيلة النوير التي يقودها رياك مشار بدعم عناصر «الجيش الأبيض» الذي يقاتل القوات الحكومية منذ فبراير الماضي، ومنذ تجدد الصراع الداخلي عام 2013 بدأت كل قبيلة تبحث عن مصالحها الخاصة بعيداً عن الإطار الوطني، فعلى سبيل المثال تم تأسيس «مجلس كبار أعيان الدينكا» الذي ينتمي له الرئيس سلفا كير، ويضم كبار السياسيين المنتمين إلي قبيلة الدينكا، ويعمل هذا المجلس على حماية قبيلة الدينكا ومصالحها من الاستهداف الخارجي والداخلي، وهذا الأمر ليس حديثاً في عهد الرئيس سلفا كير، فمنذ عهد جون جارانج الزعيم التاريخي لجنوب السودان اعتمدت «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بشكل رئيسي على«قبائل الدينكا» وكان يأتي بعدها قبائل مثل النوير والشلك.

ثانياً: صراع تاريخي

كل من سلفا كير ورياك مشار تجاوز السبعين من العمر، ورغم أن رحلتهما بدأت بالحرب سوياً ضد حكومة الخرطوم منذ التأسيس الثاني للحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983 إلا أن وصولهما للقيادة كان بمسار مختلف، وهو ما أسهم في تشكيل قناعة لدى الرجلين بأن كلاً منهما هو وحده الأحق بقيادة دولة جنوب السودان، وبينما ظل سلفا كير من الموالين لقائد الحركة الشعبية لتحرير السودان جون جارانج كان هناك خلاف جوهري بين جارانج والدينكا من جانب ومشار والنوير من جانب آخر، لأن جون جارانج كان يريد دولة سودانية موحدة لكنها علمانية وديمقراطية، بينما مشار كان يريد دولة منفصله في جنوب السودان، لذلك انشق عن الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1991، وأسس ما سُمّي بمجموعة «الناصر»، والتي تحولت في الفترة من 1993 حتى 1997 إلى ما سُمّي وقتها «جيش استقلال جنوب السودان»، ووصل الخلاف بين الزعيمين إلى ذروته عام 1997 عندما وقّع رياك مشار بشكل منفرد اتفاقية مع حكومة الخرطوم، وأصبح مساعداً للرئيس السوداني أنذاك عمر حسن البشير، وهنا ينظر سلفا كير وأنصاره إلى مشار بأنه طعن جنوب السودان عندما كان الجنوب قريب جداً من الانتصار في تلك الحروب، لكن مشار عاد مرة أخرى وأصبح نائباً لرئيس الحركة الشعبية بقيادة جارانج عند توقيع اتفاق «نيفاشا» 2005 بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية، لكن وفاة جون جارانج المفاجئة عندما تحطمت مروحيّته وهو عائد من أوغندا في أواخر يوليو 2005 سمحت لسلفا كير ليصبح رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، ومن ثم رئيس لجنوب السودان عندما استقل الجنوب عن الشمال عام 2011، هنا تعمق الخلاف من جديد بين سلفا كير الذي يتهم مشار منذ عام 2013 بأنه يدبر انقلابات عسكرية ضده.

وهناك خلاف آخر في شخصية مشار وكير، حيث درس مشار في لندن وحصل على الدكتوراه في التخطيط الاستراتيجي عام 1984 من جامعة برادفورد، ويلتف حوله الدارسون في الغرب، ويتهم مشار أنصار سلفا كير بأنهم يأخذون مناصبهم فقط لاعتبارات قبلية، وليس لمعايير دراسية أو مهنية أو احترافية.

ثالثاً: المؤسسات الوطنية

لا تزال القبيلة والانتماء العرقي هو الأساس في جنوب السودان رغم كل المحاولات الدولية لمساعدة حكومة جنوب السودان لبناء مؤسسات وطنية عابرة للقبيلة والإثنية، ولعل عدم النجاح في بناء جيش وطني أسهم في تجدد المعارك بين أنصار الدينكا والنوير منذ عام 2013، وكشفت سنوات الحرب الأهلية الخمس من 2013 وحتى 2018 أن الانتماء العرقي أعلى بكثير من الانتماء للمؤسسة العسكرية الوطنية، ورغم مرور عقد ونصف العقد على الاستقلال تعاني جنوب السودان غياب «الهوية الوطنية الجامعة» نتيجة للانقسامات السياسية الحادة بين القيادات، ورغم توقيع اتفاقيات سلام في أعوام 2015 و2016 و2018 إلا أن تنفيذها كان انتقائياً وفق مصالح كل طرف من أطراف المعادلة السياسية، وهو ما أبقى على جذور الصراع قائمة، ونتيجة لميراث الحرب الأهلية، وانعدام الثقة بين المكونات السياسية بما فيها أجنحة الحزب الحاكم تراجع دور المؤسسات الأمنية التي يمكن أن يلجأ لها المواطن في أوقات عدم اليقين الأمني، لذلك عندما يندلع العنف يذهب الناس إلى إخوانهم من نفس القبيلة أو العرقية، الأمر الذي أسهم عملياً في تجدد الاشتباكات في ولاية أعالي النيل بين أنصار الرئيس سلفا كير والداعمين لنائبه رياك مشار، وكل ذلك يؤكد عدم تحقيق الأهداف التي جاء بها «اتفاق تقاسم السلطة» عام 2018 الذي تضمن ترتيبات أمنية تضمن دمج الفصائل المسلحة في جيش وطني موحد بهدف ضمان الاستقرار السياسي والعسكري في البلاد.

رابعاً: الاستفادة من النفط

قبل استقلال جنوب السودان كان الجنوب ينتج نحو 400 ألف برميل يومياً، وبعد الاستقلال أصبحت جنوب السودان دولة حبيسة ليس لها موانئ على البحر الأحمر، لهذا تصدر جوبا نحو 150 ألف برميل يومياً إلى العالم عبر جارتها الشمالية السودان، لكن كل هذه الصادرات توقفت مع اندلاع الحرب الأهلية في شمال السودان بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، والدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو «حميدتي» في 15 إبريل 2023، وسبق أن توقفت إمدادات النفط من جنوب السودان خلال سنوات الحرب الأهلية مما أضاع على البلاد فرصة حقيقية للتنمية، ووفق بيانات البنك الدولي فإن أكثر من 60% من شعب جنوب السودان تحت خط الفقر، لأن غالبية الميزانية تذهب للمجهود الحربي والصراعات السياسية والعسكرية، وهو ما أسهم في تراجع دخل الفرد في جنوب السودان بشكل حاد منذ استقلال البلاد عام 2011، وكل ذلك عمق من قضية التهميش التي كانت من أبرز أسباب انفصال الجنوب عن الشمال.

خامساً: قضية منسيّة

عندما استقل جنوب السودان كان هناك اهتمام عربي وإفريقي ودولي كبير خاصة من الدول الغربية مثل الولايات المتحدة والدول الأوربية، لكن تصاعد الصراعات الدولية في أقاليم ومناطق أخرى في إفريقيا والشرق الأوسط والعالم أسهم في تراجع الاهتمام الدولي بقضية جنوب السودان، ويخشى الكثيرون في السودان أن يتحوّل جنوب السودان إلى قضية منسيّة.

مثلث الحلول

1-الدبلوماسية والبندقية

ترى الأمم المتحدة أن هناك «غيوماً سوداء» كثيرة يمكن أن تقود إلى «عاصفة عاتية» تعود بالحرب الأهلية من جديد، وهي حرب لن يتحملها شعب جنوب السودان والدول المجاورة خصوصاً في ظل المؤشرات التي تقول بإمكانية انهيار اتفاق السلام، وظهور أزمة نزوح جديدة، وانهيار اقتصادي وأزمة تمويل، وهو ما يقول إن خيار الدبلوماسية يجب أن يكون الخيار الوحيد لمعالجة أي خلافات داخلية في بلاد تعصف بها تحديات كثيرة تتعلق بالفقر والبيئة الإقليمية الأمنية الهشة.

2: مساران متوازيان

الأطراف الإفريقية والدولية التي تسعى لحل الصراع في جنوب السودان تعمل على مسارين متوازيين، الأول هو رفع الإقامة الجبرية عن رياك مشار ووزراء النوير مقابل تطمينات للرئيس سلفا كير بعدم الاعتراف بأي خطوات انقلابية يمكن أن يقوم بها المناوئون له في المستقبل، وفي المسار الثاني، وهو المسار الاقتصادي تدعو مجموعة من الدول لتنظيم مؤتمر لإعادة الإعمار بما يساعد جنوب السودان على الاستفادة من ثروتها النفطية، واستئناف تصدير النفط من جديد، والعمل للوصول للطاقة القصوى التي تصل لنحو 400 ألف برميل يومياً، وهناك دعوات «لتحييد المنشآت النفطية» بعيداً عن الصراعات السياسية والعسكرية باعتبارها الشريان الوحيد للحياة وتحقيق التنمية.

3: بناء المؤسسات

رغم عدم التنفيذ الكامل لاتفاق تقسيم السلطة لعام 2018 إلا أن هناك اتفاقاً في جنوب السودان وخارجها بأن هذا الاتفاق الذي يشبه الدستور ما زال يشكل أساساً قوياً يمكن البناء عليه من أجل بناء «مؤسسات وطنية» تشكل مظلة للجميع بما يكرس الانتماء الوطني والهوية الوطنية، ويساعد جنوب السودان على تجاوز عثراتها وخلافاتها، لأن العودة مرة أخرى للحرب الأهلية سوف يعصف بالسلام والاستقرار ليس فقط في جنوب السودان، بل في كل شرق إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى