رأي

جمهورية الصمت في تونس

كتب سالم لبيض, في “العربي الجديد” :

في الجمهورية الجديدة المنبعثة إلى الوجود في تونس يوم 25 يوليو/ تموز 2021، هناك رغبة جامحة للعودة بعدّادات الزمن إلى الوراء، وتحديداً إلى ما قبل سنة 2011، تيمّنا بتجربة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في احتكار السلطة ربع قرن، والحيلولة دون حقّ التونسيين في التداول السلمي على ممارستها، وذلك باسترجاع تكميم الأفواه وسيلة رئيسية تعلو فوق كلّ الوسائل الأخرى، لترسيخ السلطة والسلطان وبقاء الرئيس قيّس سعيّد في الحكم قدر الإمكان.

كانت البداية مع المرسوم عدد 54 لسنة 2022، بروحه التسلطية والروائح الاستبدادية الكريهة التي تُشتمّ منه، ومحتوياته المضادّة لنُبل السياسة وقيمها السامية، وأخلاقيات العمل العام، وضلاله عن سُبُل الحرية، ووأد الاختلاف، وقمع الأفكار المغايرة، ومنع التعبير عنها، وسجن أصحابها.

ولقد وُضع تحت طائلة هذا المرسوم الزجري محامون وإعلاميون وصحافيون ومدوّنون وكتّاب وساسة من اتجاهات مختلفة ورؤساء أحزاب ونشطاء مدنيون أغلبهم من الشباب، ومواطنون عاديون، ذنبهم كتابة تدوينة أو الإدلاء بموقف أو نشر نصّ أو فيديو غير مألوف، منهم من زُجّ في السجون ومنهم من ينتظر. وهذه المقاربة في الحكم، المعبّرة عن شقاء وعي أصحابها وعتاقة أفكارهم ولا تاريخيّتها، تستوجب اجتباء أحسن عطور الفكر والسياسة، والانخراط في النضالات المدنية والسلمية المضنية، والاعتماد على المشرّعين وقضاة الأرض الأحرار المُنصفين الذين يأبون الضيم ويرفضون الظلم وظلماته، عسى أن يعود إلى التاريخ عبقه، وتزول روائح (وآثار) خراب العمران الإعلامي والسياسي والمدني، التي أحدثها هذا المرسوم في عالم الحياة العامة، وتنقيتها من الشوائب ومضادّات الحقوق والحريات بأنواعها.

وبعد هذه المسحة التسلطية، لتكريس سيادة الصمت، والكفّ عن الكلام في قضايا الشأن العام، صدر قرار وزير الداخلية، مستكملاً مسار التكميم، بمنع “الميكرو – تروتوار” (مجموعة من الناشطين يتواصلون مع الجمهور العام) في شارع الحبيب بورقيبة على غير الصحافيين، وقد نقل الخبر أوّل مرّة، بشيءٍ من السبق، موقع قناة الحدث الإماراتية في تونس يوم 21 مارس/ آذار 2024. والمقصود بالإجراء منع التصوير والمقابلات الحرّة التي تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، على ما في هذا المنع من نكران لدور النشاط الاتصالي الشعبي والسوشيال – ميديا عموما، الخارج عن هيمنة الدولة ورقابتها، المواكب للثورة الاتصالية التي اجتاحت العالم وكسرت الحدود بين الدول من دون أن تحتاج إلى أذون الحكومات وتأشيراتها. وهو نشاط كان له الفضل في إنجاح الثورة التونسية سنة 2011، والتعجيل بإسقاط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وإنارة حقائق كثيرة أمام الرأي العام. هذا علاوة على ما تحقق لبعض السياسيين من إكراميات اتصالية ومزايا إعلامية، بفضل فيديوهات واستجوابات “الميكرو – تروتوار” التي عجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي، فكان لها الفضل في إدخالهم استطلاعات الرأي العام، ودخول السباق الانتخابي، حتى بلوغ هرم السلطة وتولي الحكم.

لم يحظ خبر منع “الميكرو – تروتوار” بمتابعة شاملة من وسائل الإعلام واهتمام الإعلاميين المحليين، ربما لأنه لا يمسّ جمهور العاملين في القطاع الإعلامي بصفة مباشرة

لم يحظ خبر منع “الميكرو – تروتوار” بمتابعة شاملة من وسائل الإعلام واهتمام الإعلاميين المحليين، ربما لأنه لا يمسّ جمهور العاملين في القطاع الإعلامي بصفة مباشرة. واكتفت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين بإشارات عابرة خفيفة الأثر في بيانها يوم 21 مارس/ آذار الجاري بعنوان “لا مجال للتراجع عن الحقوق والحريات”، على غرار “تابعت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين الجدل الدائر داخل المهنة الصحافية حول حرية التصوير في الفضاء العام لغير حاملي بطاقة صحافي محترف أو ترخيص للتصوير”، مضيفة “لا يمكن حسب المعايير الدولية والدستور التونسي في الفصل 37 ممارسة رقابة مسبقة على الحريات العامة كحرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر”.

والحال أن هذا الإجراء لا يقلّ خطورة على الحياة العامة عن المرسوم 54، فهو يهدف إلى منع المواطن التونسي من التعبير عن رأيه في شارع الحبيب بورقيبة المعروف بشارع الثورة التونسية، وهو فضاء الحرّية الأول في تونس، الذي يضجّ على مدار الساعات والأيام والأشهر وسنوات طويلة بأنشطة السياسيين وتصوير المدوّنين وتغطيات الإعلاميين. وقد يكون هذا الإجراء مقدّمة لتعميم المنع ليشمل كل شوارع الثورة وساحاتها في مختلف المدن والقرى والأرياف التونسية والفضاء العام برمّته، فالحقوق ومساحات التعبير والفضاءات العمومية تسلب تدريجيا من أصحابها هذه الأيام، وعلى مراحل بوسائل القتل السياسي الرحيم، أو بعنف الدولة وعصاها التي تحرّكها أيديولوجيا أصحاب الحكم.

التأسيس لجمهورية الصمت في تونس مقدّمة لإعادة إنتاج جمهورية الخوف التي عرفتها تونس بعدما ثبّت بن علي أركان حكمه

واللافت أن الأيديولوجيا المتخفّية وراء قمع حق التعبير هذه المرّة يسارية نُشّئ أصحابها ومريدوها على الدفاع عن الحقوق والحرّيات العامة والفردية والأكاديمية. وأنّ الدرس الأكاديمي في معهد الصحافة والعلوم والأخبار، حول المواطن – الصحافي والمواطن – المدوّن، وهو الذي استطاع فترات طويلة، بواسطة آلة تصوير بسيطة أو عن طريق الهاتف الجوّال الحامل لكاميرا تصوير، كشف حقائق كثيرة وإنارة الناس وتسليط الأضواء على ما يدور من حولهم وما يرسم لهم من السلطات واختياراتها وسياساتها، وعوالم التجاوزات والفساد المصاحبة، قد بدأ يفقد مصداقيته ومبرّرات تدريسه. ويمكن أن ينتهي به الأمر إلى أن يختفي من سلّم المقرّرات الجامعية، شأن درس السُلطات والتفريق بينها، فلا مكان لهذا الدرس في محاريب القانون التونسية وكلياته ومعاهده، فالسُلطات تحوّلت في الدستور التونسي لسنة 2022 إلى وظائف لا فواصل بينها ولا تفريق، تخضع كلها لسلطة رئيس الجمهورية دون سواه.

صرّح وزير الداخلية التونسي كمال الفقي، يوم 6 مارس/ آذار الحالي، في أثناء الجلسة العامة البرلمانية للمصادقة على قانوني بطاقة التعريف وجواز السفر البيومتريين (الإلكترونيين)، قائلا “البلاد (تونس) مثل البلدان المتقدّمة ستصبح مجهزة بالكاميرات والمنظومة الإعلامية وبعون الله سنعذّبهم جماعة السرعة وجماعة عدم الوقوف والتوقف وعدم احترام الأولوية”. من الواضح ان هذا التصريح الذي سبق قراره منع “الميكرو – تروتوار” بأيام، من منبر مجلس الشعب، وأمام من يُفترض أن يكونوا نوابا للشعب، ولسان حاله، وصوته المدوّي، من دون ردّ فعل يذكر منهم، يستبطن منزعاً عقابياً يرمي إلى جعل الدولة تترصّد مواطنيها لتعذيب المخطئين والمتجاوزين، فكلمة سنعذّبهم جاءت مشحونة بالرغبة في القمع، بدلاً من إرشاد الناس وتهيئتهم لممارسة سلوك حضاري مستدام قوامة احترام القوانين، بما في ذلك التشريعات المرورية. ويبدو أن الذهنية نفسها التي أنتجت المرسوم عدد 54 وقرار منع “الميكرو – تروتوار”، تسعى إلى تركيز أدوات المراقبة والتصوير في كل الفضاءات العامة لبسط الدولة هيمنتها المطلقة على الجماعات والأفراد. ولعل إحداث بطاقة التعريف وجواز السفر البيومتريين يمثّل أحدث مظاهر تلك الهيمنة، ذلك أن تمرير قانوني الوثيقتين البيومتريتين لقي لسنوات طويلة معارضة المجتمع المدني والهيئة الوطنية للمعطيات الشخصية، لما يمثله من كشف للمعطيات الخاصة للتونسيين وتهديد لحقوقهم وحرياتهم.

الأيديولوجيا المتخفّية وراء قمع حق التعبير هذه المرّة يسارية نُشّئ أصحابها ومريدوها على الدفاع عن الحقوق والحرّيات العامة والفردية والأكاديمية

وكان الرئيس السابق للهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية شوقي قداس قد صرّح، يوم 23 فبراير/ شباط 2023، قائلا “لبطاقة التعريف البيومترية سلبيات وتمثّل خطورة على سلامة المعطيات الشخصية”، فهذه البطاقة “تتضمّن معطيات حساسة جدا وتشكّل خطورة على الخصوصية وغيرها من الحقوق الأساسية في تونس”. وأضاف الرئيس السابق للهيئة “له إثباتات تفيد بأن الاختراقات ممكنة من الدولة، والتي يمكنها تتبع الأشخاص عند امتلاكها كلّ المقومات الآلية ويصبح الشخص مراقبا من كل صوب وحدب مثل ما يجري في الصين حاليا”، وأن “الدولة التونسية، وفق مقال منشور في مجلة جون أفريك يوم 22 فبراير/ شباط 2022، ستقوم بشراء منظومة للتعرف البيومتري من شركة فرنسية”.

ويبدو أن الهدف الرئيسي من وراء عملية تحويل التونسيين إلى أرقام وعلامات مشفّرة، مكشوفي الهوية من الدولة وأجهزتها، وتصنيفهم في سجلات ودفاتر وملفات إلكترونية بمواصفات بيومترية، وخصوصاً بعد إلغاء الصفة والمهنة والحالة المدنية من الوثائق الرسمية البيومترية، بتعلّة المساواة، يبدو أنه هدف رقابي وأمني بامتياز، وليس تنمويا أو خدميا، أو يندرج ضمن مواكبة العصر والتحولات العميقة التي تعيشها الإنسانية في ظل الطفرة التكنولوجية والاتصالية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي.

التأسيس لجمهورية الصمت مقدمة لإعادة إنتاج جمهورية الخوف، التي عرفتها تونس بعدما ثبّت الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي أركان حكمه، إثر الانتخابات الصورية لسنة 1989، واستمرّت حتى 2011، يتمّ بخطى حثيثة، بآليات تكميم الأفواه نفسها والحدّ قدر الإمكان من الحريات السياسية، وإجبار الناس على الإقلاع عن الكلام في قضايا الشأن العام ومسألة السلطة والحكم.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى