ثنائية بازغة في النظام العالمي

كتب محمد السعيد إدريس, في الخليج:
كشفت القمة الأخيرة لمنظمة شنغهاي للتعاون التي استضافتها الصين في مدينة تيانجين الشمالية، وامتدت ليومين، بحضور زعماء عشرين دولة أبرزهم الرئيس الصيني شي جين بينج والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، وما أعقب انعقادها في الثالث من سبتمبر/ أيلول الجاري من استعراض عسكري مهيب أجرته الصين في العاصمة بكين، شارك فيه الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون وقادة الدول الذين حضروا قمة منظمة شنغهاي، وما جرى توقيعه من اتفاقيات بين الصين ومعظم الدول الأعضاء، خاصة مع روسيا، وما أعلن من مواقف للقادة المشاركين، وخاصة رئيس الوزراء الهندي، أن هذه المنظمة لم تعد مجرد منتدى للنقاش، ولكنها تتطور لتصبح منظمة رئيسية لخلق نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب على أنقاض النظام الأحادي القطبية لدول حلف شمال الأطلسي وحلفائه في المنطقة، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
جدية هذا التطور كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على رأس من أدركوا خطورته، وشاركته في هذا الإدراك كايا كالاس مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. لم يستطع الرئيس ترامب تحمل مغزى مشهد الرئيس الصيني شي جين بينج وهو يتوسط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن يمينه، والرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون عن يساره، وخلفهم قادة منظمة شنغهاي للتعاون وهم يتقدمون لحضور العرض العسكري الضخم الذي نظمته الصين، احتفالًا بالعيد الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصارها الحاسم على اليابان في تلك الحرب، وما حفل به هذا الاحتفال من مفاجآت تكنولوجية عسكرية حديثة حفزت الرئيس الصيني ليفتخر بها في كلمته أمام هذا العرض العسكري، وليقول إن «نهضة الأمة الصينية لا يمكن إيقافها، والقضية النبيلة المتمثلة في السلام والتنمية الإنسانية ستنتصر حتماً»، وجاء رد فعل ترامب انفعالياً غاضباً في رسالة بعث بها في ذات اللحظات إلى الرئيس الصيني عبر منصته الخاصة «تروث سوشيال»، قال فيها «أتمنى للرئيس شي ولشعب الصين العظيم يوماً رائعاً من الاحتفالات، وقبل أن يضيف بنبرة ساخرة، أرجو منكم إبلاغ أطيب تحياتي لفلاديمير بوتين وكيم جونج أون، بينما تتآمرون ضد الولايات المتحدة».
التآمر، وليس غيره، هو المغزى الذي لم يدرك غيره دونالد ترامب من تلك الأحداث الهائلة التي شهدتها الصين على مدى الأيام الثلاثة الأولى من شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، لأنه يعيش مسكوناً بأحادية التفوق الأمريكي على كل العالم، ولا يرى في أي محاولة عالمية للنهوض ورفض الخضوع للهيمنة الأمريكية إلا مؤامرة، ويجب التصدي لها.
لم يكتف ترامب بهذا الرد الغاضب، لكنه سريعاً ما حول الغضب إلى قرارات وسياسات للمواجهة عندما وقّع بعد أقل من 48 ساعة على إعلانه ذلك، الغضب، أمراً تنفيذياً في الخامس من سبتمبر/ أيلول الجاري، غيّر بموجبه اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، في إشارة تقول إن الجيوش الأمريكية لم تعد مهمتها دفاعية، بل أضحت هجومية، وأعقب إصدار هذا الأمر التنفيذي تصريح أدلى به وزير الحرب (وفقاً للتسمية الجديدة) بيتر هيغست للصحافة قال فيه إن الحكومة ترغب في استعادة روح القتال، وإرسال رسالة ردع للعالم، هكذا«رسالة ردع للعالم»!!
إدراك كايا كالاس مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي للأحداث تلك التي شهدتها الصين لم يختلف كثيراً عن إدراك الرئيس ترامب، حيث وصفت تلك التطورات بأنها تندرج في إطار مساعٍ لبناء (نظام عالمي جديد) مناهض للغرب. وأضافت كالاس: نشهد محاولات متعمدة لتغيير النظام العالمي.. تتحدث الصين وروسيا أيضاً عن قيادتهما تغييرات لم نشهدها منذ مئة سنة، وعن مراجعة لنظام الأمن العالمي، واستخلصت من هذا كله التوصية التالية «أن أوروبا في حاجة إلى تعزيز (قوتها الجيوسياسية) في مواجهة الاضطرابات العالمية». وتابعت»إن نظاماً عالمياً جديداً يتشكل.. لن يتم تشكيله من دون أوروبا، ولكن سيتم عندما تكون أوروبا مستعدة للقيام به، وما إذا كنا على استعداد للاعتراف بالحاجة إلى أن تلعب أوروبا دوراً جيوسياسياً».
الواضح الآن أن العالم يتغير، نعم ولا نقول يتحول، والتغيير المتوقع هو انقسام العالم مجددًا إلى كتلتين تمتلكان قدرات عسكرية، واستراتيجية وتكنولوجية هائلة، لكن بتوجهات متباينة: كتلة تقودها أمريكا تضم مجموعة الدول الصناعية السبع منضوية تحت قيادة حلف شمال الأطلسي شديدة الحرص على الهيمنة الأحادية، والسيطرة المنفردة على العالم وتسخير منظمات ومؤسسات النظام العالمى الراهن إلى خدمة هذه الأهداف، وكتلة أخرى تقودها الصين وروسيا وكوريا الشمالية والهند ومعظم القوى الصاعدة في الجنوب العالمي، تسعى إلى إسقاط النظام أحادي القطبية، وتأسيس نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدالة وأكثر ديمقراطية يحترم حريات وإرادات الشعوب ويؤمن بالمشاركة في القرار الدولي، ويؤسس الآن لمنظمات بديلة أبرزها بالطبع منظمة شنغهاي للتعاون، كإطار أمني ومجموعة بريكس كإطار اقتصادي.
متى سيحسم الصراع الجديد؟، وأي نظام عالمي سوف يشهده العالم؟، وأين نحن العرب والشرق الأوسط من مجمل هذه التطورات؟. هذه هي الأسئلة الاستراتيجية الكبرى التي تتحدانا.