تونس ليست على مفترق طرق، بل على طريق واضح نحو الاستقرار والنمو

كتب علي قاسم في صحيفة العرب.
قرار عدم تعويم الدينار بالكامل، مدعوما بإستراتيجية متعددة الأوجه للخروج من الأزمة، يعكس نهجاً متوازناً يراعي الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، مع السعي لتحقيق إصلاحاتٍ تدريجية.
أولاً، دعونا نتفق أن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تونس جزء من أزمة اقتصادية عالمية. رغم ذلك، نجحت تونس في المناورة والإبقاء على الوضع تحت السيطرة، رافضةً الخضوعَ لشروط صندوق النقد الدولي وجهات لها مصلحةٌ في رؤية الدينار التونسي يتراجع. وإن دلّ ذلك على شيءٍ، فإنه يدلّ على أن الخبرات التونسية قادرة على وضع مخططاتٍ تبقي البلاد على الضفة، حتى وإن تأجل موعد الإبحار قليلاً.
رغم الأزمة الاقتصادية العالمية والتحديات الداخلية المعقدة، تبرز السياسة الاقتصادية للحكومة التونسية وقرارات البنك المركزي كمثالٍ للصبر والبراغماتية. فقرار عدم تعويم الدينار بالكامل، مدعوما بإستراتيجية متعددة الأوجه للخروج من الأزمة، يعكس نهجاً متوازناً يراعي الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، مع السعي لتحقيق إصلاحاتٍ تدريجية.
التعويم الكلي للدينار، الذي يدعو إليه صندوق النقد الدولي، قد يبدو حلاً نظرياً جذاباً لتعزيز تنافسية الصادرات التونسية وجذب الاستثمار الأجنبي، لكنه يحمل مخاطر كارثية في السياق التونسي الحالي. أولاً، انخفاضٌ حادّ في قيمة الدينار سيؤدي إلى تضخمٍ جامح، كما حدث في مصر بعد تعويم الجنيه عام 2022، حيث قفز التضخم إلى 30 في المئة. في تونس، حيث بلغ التضخم 9 – 10 في المئة في عام 2023، سيرتفع سعر الواردات الأساسية مثل الغذاء والوقود، ما يؤثر سلباً على القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
ثانياً، احتياطيات تونس من العملة الأجنبية محدودة، فقد انخفضت إلى 7.1 مليار دولار في أغسطس 2021، ووصلت إلى 22.3 مليار دينار (أي ما يعادل 100 يوم من الواردات) في نوفمبر 2024. التعويم الكلي سيستنزف هذه الاحتياطيات بسرعة إذا تدخل البنك المركزي لتخفيف الانخفاض، ما يعرض البلاد لخطر عدم القدرة على تمويل الواردات الضرورية. تجربة لبنان، حيث انهارت الليرة بنسبة 98 في المئة، تظهر كيف يمكن للتعويم أن يدمّر النسيج الاقتصادي والاجتماعي.
ثالثاً، الاستقرار الاجتماعي أولوية قصوى في تونس، التي شهدت توترات سياسية واقتصادية منذ عام 2011. انخفاض قيمة الدينار سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، ما قد يثير احتجاجات شعبية. فتجربة التعويم الجزئي منذ عام 2017، التي أدت إلى انخفاض الدينار بنسبة 43 في المئة خلال عقد وارتفاع التضخم، تؤكد أن التعويم الكلي قد يكون صدمة لا تتحملها البلاد. بدلاً من ذلك، اختار البنك المركزي الحفاظ على استقرار نسبي للدينار، محققاً تحسناً بنسبة 6.59 في المئة مقابل الدولار خلال 12 شهراً حتى يوليو 2025، ما عزز الثقة ومنع الانهيار السريع.
السياسة الاقتصادية التونسية لا تقتصر على دعم الدينار، بل تشمل خطةً متعددة الأوجه لمواجهة الأزمة. أولاً، تسعى الحكومة لتقليص عجز الميزانية من 7.7 في المئة في عام 2023 إلى 6.6 في المئة في 2024، وصولاً إلى 3.9 في المئة بحلول 2026، من خلال تحسين إدارة المالية العامة. هذا النهج يعكس انضباطاً مالياً يحمي الاقتصاد من التدهور.
ثانياً، يلعب البنك المركزي دوراً محورياً في تمويل الخزينة العامة. في 2024، أقرّ البرلمان قانوناً يتيح للبنك منح تسهيلاتٍ بقيمة 7 مليارات دينار، منها 3 مليارات لسداد ديون خارجية، والباقي لتمويل استثمارات عامة. هذه الخطوة خفّفت الضغط عن التمويل الخارجي، وحافظت على قدرة تونس على الوفاء بالتزاماتها، كما أثبت سداد الديون الخارجية في 2023.
ثالثاً، تنويع مصادر التمويل يعكس ذكاءً إستراتيجياً. فبدلاً من الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي القاسية، مثل رفع الدعم وتعويم الدينار، لجأت تونس إلى البنك الأفريقي للتنمية والبنك العربي، إضافةً إلى قروض ثنائية من السعودية (500 مليون دولار) والجزائر (200 مليون دولار). كما استفادت من تحويلات المغتربين (7 مليارات دينار) وعائدات السياحة (6.7 مليار دينار في 2023)، ما دعّم الاحتياطي النقدي.
رابعاً، تسعى الحكومة لتعزيز الإنتاج المحلي والصادرات عبر دعم قطاعات مثل الزراعة والصناعة، ما يقلل الاعتماد على الواردات ويحسن الميزان التجاري. فإعادة هيكلة الشركات العامة وتحفيز القطاع الخاص عبر تقليل العقبات البيروقراطية تؤكد التزام الحكومة بإصلاحاتٍ هيكلية، وإن كانت تدريجية لتجنب الاضطرابات الاجتماعية.
خامساً، إدارة الدين العام، الذي بلغ 79.8 في المئة من الناتج المحلي في 2024، تظهر كفاءة ملحوظة. فالتزام تونس بعدم إعادة جدولة الديون، مع تحسين إدارة الدين الداخلي والخارجي، عزز الثقة الدولية في اقتصادها.
تشديد السياسة النقدية عبر الحفاظ على سعر فائدة عند 8 في المئة وتقليص الواردات غير الضرورية كان ضرورة لتجنب الانهيار السريع. هذا النهج حافظ على استقرار اجتماعي نسبي ومنح الحكومة وقتاً لتنفيذ إصلاحات دون ضغطٍ فوري. كما عزز ثقة المغتربين والسياح، ما دعّم تدفقات العملة الصعبة. ورغم التكاليف، مثل ضعف تنافسية الصادرات وزيادة البطالة، فإن البديل – التعويم الكلي – كان سيكون أكثر تدميراً.
تونس، التي أشعلت شرارة الربيع العربي، تثبت اليوم أنها قادرة على إدارة أزمتها بحكمة. السياسة الاقتصادية الحالية، بدعم البنك المركزي، ليست مثالية لكنها الأقل ضرراً في سياق معقد. فعدم تعويم الدينار حافظ على استقرار نسبي، بينما الخطة الاقتصادية الشاملة – من تقليص العجز إلى تنويع التمويل وتعزيز الإنتاج – تضع أسساً لانتعاش تدريجي. والتحدي يكمن في تسريع الإصلاحات الهيكلية، مثل إعادة هيكلة الدعم وتحسين بيئة الأعمال، لضمان استدامة هذا النهج.
تونس ليست على مفترق طرق، بل تسير على طريق واضح نحو الاستقرار والنمو. وبفضل قراراتٍ اقتصاديةٍ مدروسة، تستحق تونس أن تكون نموذجاً للصمود لا شاهدًا على الفشل. الدينار ليس مجرد عملة، بل رمزٌ لإرادة شعب يرفض الاستسلام للأزمات.




