رأي

تونس تعيد صياغة دورها الإقليمي

كتب علي قاسم في صحيفة العرب.

مقاربة الرئيس التونسي قيس سعيد تمزج بين وضوح الموقف السياسي ومرونة التكيف مع المتغيرات وتتيح بناء تموضع إستراتيجي مستقل يستند إلى موازنة دقيقة بين المصالح الوطنية والشراكات الدولية.

مع بداية عام 2025 وعودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، دخل العالم ودخلت معه تونس مرحلة دقيقة من إعادة التموقع الجيوسياسي والاقتصادي، حيث أن المشهد الدولي يعيش تحولات عميقة تتطلب من الدول غير المصنفة ضمن أولويات واشنطن أن تعيد صياغة إستراتيجياتها بما يضمن لها الحضور الفاعل دون ارتهان. في هذا السياق، تبرز تونس بقيادة الرئيس قيس سعيد كلاعب إقليمي يتمسك بمبدأ السيادة، ويبحث عن فرص لتثبيت موقعه في خارطة المتوسط، رغم التحديات المتزايدة.

عودة ترامب إلى الرئاسة أعادت إحياء عقيدة “أميركا أولًا”، التي تركز على تعظيم المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة، مع تقليص التدخلات العسكرية في المناطق التي لا تُعتبر ذات أولوية إستراتيجية. في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يتجه التركيز الأميركي نحو دول الخليج، ومواجهة النفوذين الإيراني والصيني، بينما تبقى تونس خارج دائرة الاهتمام المباشر، رغم ما حملته زيارة مسعد بولس، مستشار ترامب لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط، إلى تونس في يوليو 2025، من إشارات إيجابية.

ترجمة هذا التوجه إلى سياسات تنفيذية تتطلب أدوات مؤسساتية فعالة، ورؤية اقتصادية متماسكة، قادرة على تحويل الموقع الجغرافي والرصيد السياسي إلى نفوذ ملموس في عالم يشهد عودة لتعدد الأقطاب

أكد بولس خال زيارته على عمق العلاقات التاريخية بين البلدين، مشيرًا إلى أكثر من قرنين من التعاون، منذ معاهدة السلام والصداقة عام 1797. هذه الزيارة، وإن كانت رمزية، تعكس استعداد واشنطن لإبقاء تونس ضمن دائرة الشراكة، خصوصًا في ملفات الأمن البحري ومكافحة الإرهاب. لكن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذا الاهتمام إلى مكاسب ملموسة، عبر أدوات اقتصادية ومؤسساتية تضمن استمرارية التعاون دون المساس باستقلالية القرار الوطني.

الاقتصاد التونسي يواجه ضغوطًا متزايدة، أبرزها الرسوم الجمركية الأميركية التي بلغت 28 في المئة على صادرات حيوية مثل زيت الزيتون، ما أثّر على قطاع يُعد من ركائز الاقتصاد الوطني. هذه الإجراءات يرى فيها بعض الخبراء إشارات غير مباشرة حول ترتيب الأولويات الأميركية.

ورغم أن حجم التجارة بين تونس والولايات المتحدة لا يتجاوز 1.65 مليار دولار سنويًا، فإن التأثيرات غير المباشرة، خاصة على الطلب الأوروبي، قد تكون أكثر تعقيدًا. ففي ظل بطالة تتجاوز 15 في المئة، ودين عام يقترب من 90 في المئة من الناتج المحلي، تبرز الحاجة إلى خيارات اقتصادية بديلة. وهنا يظهر موقف الرئيس قيس سعيد، الرافض لشروط صندوق النقد الدولي، كإعلان واضح عن تمسكه بالسيادة الاقتصادية، حتى وإن كان الثمن تأجيل بعض الإصلاحات.

قيس سعيد يدرك أن الخروج من دائرة الضغط لا يكون إلا بتوسيع الشراكات، خصوصًا مع دول أفريقيا جنوب الصحراء ودول الخليج، حيث العلاقات السياسية أكثر مرونة، والفرص الاقتصادية واعدة. هذا التوجه يعكس رؤية إستراتيجية لتونس كجسر بين الشمال والجنوب، وليس مجرد تابع للسياسات الغربية.

منذ انتخابه في 2019، رسّخ قيس سعيد صورة الرئيس الذي يضع السيادة الوطنية في صلب خياراته السياسية. قراراته في 25 يوليو 2021، التي شملت تجميد البرلمان وحل الحكومة، وإن أثارت جدلًا داخليًا، فإنها عززت شعبيته لدى فئات واسعة ترى فيه صوتًا صادقًا في مواجهة النخب التقليدية. في السياسة الخارجية، حافظ سعيد على خطاب ثابت يركز على المصالح الوطنية، خصوصًا في علاقاته مع دول الجوار، ما يعكس رغبة في بناء محور مغاربي مستقل.

الرئيس سعيد، الذي يرفض الانخراط في تحالفات مشروطة، يملك فرصة لتقديم نموذج جديد للتعاون، يقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. هذا النموذج يمكن أن يعيد إلى تونس مكانتها كوسيط في الأزمات الإقليمية

هذا التوجه يمنح تونس هامشًا تفاوضيًا مهمًا، خصوصًا في ملفات الأمن البحري ومكافحة الإرهاب، حيث يمكن لتونس أن تقدم نفسها كشريك موثوق، دون أن تكون مجرد منفّذ لسياسات الآخرين. تحويل ميناء رادس إلى مركز لوجيستي إقليمي، وربط أوروبا بأفريقيا، هو أحد المشاريع التي يمكن أن تعزز هذا الدور، بشرط أن يتم ذلك ضمن رؤية وطنية متماسكة.

في ظل تراجع التدخل الأميركي المباشر، تبرز فرص لتونس لتعزيز دورها كقوة استقرار في المتوسط. فتقرير “ماكس سيكيوريتي” الصادر في فبراير 2025 أشار إلى اهتمام واشنطن بشركاء إقليميين قادرين على ضبط الحدود البحرية ومكافحة التهريب والهجرة غير النظامية. هذا الدور، إذا ما تم ضمن شراكة متكافئة، يمكن أن يوفر لتونس دعمًا فنيًا وماليًا دون المساس باستقلالية القرار.

الرئيس سعيد، الذي يرفض الانخراط في تحالفات مشروطة، يملك فرصة لتقديم نموذج جديد للتعاون، يقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. هذا النموذج يمكن أن يعيد إلى تونس مكانتها كوسيط في الأزمات الإقليمية، خصوصًا في الملف الليبي، الذي يحتاج إلى طرف محايد وفاعل.

لتحقيق أقصى استفادة من التحولات الدولية، تحتاج تونس إلى إستراتيجية متعددة الأبعاد، تقوم على تنويع الأسواق، عبر تعزيز العلاقات مع أفريقيا والخليج، وتقليص الاعتماد على الشركاء التقليديين وتطوير البنية التحتية، خصوصًا في قطاع النقل البحري والطاقة المتجددة، لجذب الاستثمارات وتحقيق نمو مستدام، وتفعيل الدبلوماسية الإقليمية، من خلال إعادة إحياء دور الوساطة في الأزمات، وتعزيز الحضور التونسي في المنظمات الإقليمية، مع الحفاظ على السيادة عبر التمسك بمواقف مبدئية، دون الانغلاق، بما يضمن لتونس استقلالية القرار ومرونة التفاوض.

التحولات التي يشهدها النظام الدولي تقدم لتونس فرصة لإعادة صياغة دورها الإقليمي وفق منطق السيادة الفاعلة لا التبعية. إن مقاربة الرئيس قيس سعيد، التي تمزج بين وضوح الموقف السياسي ومرونة التكيف مع المتغيرات، تتيح لتونس إمكانية بناء تموضع إستراتيجي مستقل يستند إلى موازنة دقيقة بين المصالح الوطنية والانخراط المدروس في الشراكات الدولية.

ترجمة هذا التوجه إلى سياسات تنفيذية تتطلب أدوات مؤسساتية فعالة، ورؤية اقتصادية متماسكة، قادرة على تحويل الموقع الجغرافي والرصيد السياسي إلى نفوذ ملموس في عالم يشهد عودة لتعدد الأقطاب.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى