توقعات بعام صعب في أميركا وأوروبا وتفاؤل بالهند وجنوب شرقي آسيا.
قبل نحو شهرين من أفول نجم العام الحالي 2023، تبدو اليوم رؤية المؤسسات العالمية لـ2024 أكثر وضوحاً، بعكس الرؤى الغائمة التي استشرفت ما سيكون عليه الاقتصاد العالمي في 2024 في وقت مبكر من العام الحالي، وإن أجمع جلهم أن العالم في انتظار عام صعب آخر خلال أسابيع.
أحدث تلك الرؤى صدرت من بنك “نومورا” الياباني، الذي يبدو على نحو أكثر تفاؤلاً حيال بعض الاقتصادات خلال العام المقبل، وبخاصة في آسيا، وإن أجمع كلية على أن المشهد الاقتصادي صعب ومتصدع، في ظل تضخم عنيد وتوقعات بانزلاق الاقتصاد الأميركي في دائرة الركود.
في مذكرة حديثة يتحدث خمسة من كبار محللي البنك الياباني، عن توقعاتهم بنمو اقتصادي عالمي متباطئ إلى مستوى اثنين في المئة العام المقبل، داعين إلى ضرورة العمل على خفض التضخم في مؤشر أسعار المستهلكين، ومرجحين ألا يسلم الاقتصاد في أوروبا وأميركا من السقوط في دائرة الركود بدءاً من هذا الربع، ومتفائلين لمستقبل الهند وجنوب شرقي آسيا، إذ يتوقعون أن تكون المنطقة من بين أسرع الاقتصادات نمواً في عام 2024، بما يجذب استثمارات أجنبية أقوى.
تصدعات آخذة في الظهور
مع قيام ما يقرب من 95 في المئة من البنوك المركزية على مستوى العالم برفع أسعار الفائدة في إطار الدورة العالمية الأكثر عدوانية، لا يبدي محللو البنك استغراباً من “التصدعات الآخذة في الظهور في الاقتصاد العالمي” متوقعين أن يقع الاقتصاد الأميركي والأوروبي في حال من الركود المعتدل، فلا يزال التضخم الأساس مرتفعاً للغاية بحيث لا يمكن للبنوك المركزية أن تتخلى عن حذرها وتخفض أسعار الفائدة بشكل حاد، في حين أن الدين العام مرتفع للغاية الآن لكي تخاطر الحكومات بتوسع مالي كبير آخر دون ارتفاع عائدات السندات.
في توقعاتهم للاقتصاد الأميركي، يرون أن البيانات الاقتصادية الأخيرة في الولايات المتحدة قوية، ومع ذلك من المتوقع أن يدخل أكبر اقتصاد في العالم في حال ركود في الربع الأخير من عام 2023 بسبب تباطؤ أسواق العمل، ويشيرون إلى أن رفع سعر الفائدة في يوليو (تموز) الماضي ربما يكون الأخير في دورة رفع الفائدة الحالية، على رغم أن البيانات القوية الأخيرة تزيد من خطر رفع سعر الفائدة مرة أخرى قبل نهاية العام، ومن المرجح أن يستمر الاتجاه الانكماشي المستمر على المدى المتوسط، مما يؤدي إلى دورة خفض أسعار الفائدة بدءاً من مارس (آذار) 2024.
لدى محللي “نومورا” ثلاثة أسباب رئيسة تسهم في تباطؤ التضخم، الأول هو أسعار السيارات المستعملة، وهي أسعار متقلبة ولكن ينبغي أن تظل ضعيفة، نظراً إلى تشديد شروط الائتمان في أسواق السيارات، إضافة إلى ذلك فإن استمرار انخفاض تضخم الإيجارات واعتدال نمو الأجور يدعم أيضاً التوقعات بتراجع التضخم، مع ترك عدد العمال وظائفهم بحثاً عن فرص أفضل وانخفاض الأجور المرتفعة بالفعل، فإن تضخم الأجور لا يزال معتدلاً، ومن المرجح أن تتعزز دورة تراجع التضخم المستمرة بفعل الركود المتوقع، إذ شعرت الشركات والأسر بآثار تشديد شروط الائتمان في الآونة الأخيرة، وواصلت البنوك تشديد معايير الإقراض، وبدأت معدلات التخلف عن سداد سندات الشركات ذات العائد المرتفع في الارتفاع.
خفض الفائدة الأميركية
ويلفت محللو البنك إلى سيناريو الهبوط الناعم للاقتصاد الأميركي، وهو مزيج من استمرار تراجع التضخم والاقتصاد المرن، ويقولون إن في هذه الحالة، قد يقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي بتأجيل تخفيضات أسعار الفائدة في عام 2024 أو قد يكون حجم تخفيضاته أصغر مما يتوقع حالياً.
في أوروبا يتوقع بنك “نومورا” الياباني أن يستمر ركود منطقة اليورو من الربع الثالث من عام 2023 لمدة ثلاثة أرباع، في حين يعتقد أنه من المرجح أن ينخفض تضخم مؤشر أسعار المستهلكين وأن أسعار الفائدة بلغت ذروتها على نطاق واسع، وأن ينخفض معدل التضخم الرئيس في أوروبا إلى ما يقل قليلاً عن 3.3 في المئة بحلول نهاية هذا العام، ويلفت إلى زيادة فرص حدوث الركود، وبخاصة في المملكة المتحدة، إذ إن السبب الرئيس لذلك هو عدد الأشخاص الذين يحصلون على قروض عقارية بسعر فائدة أعلى كثيراً، يد يضعف إنفاقهم الاستهلاكي على مدى السنوات القليلة المقبلة.
في اليابان يتناول محللو البنك العلاقة طويلة الأمد بين تضخم مؤشر أسعار المستهلكين ونمو الأجور، ويرون أنه على مدى السنوات الـ40 الماضية، كان التضخم في مؤشر أسعار المستهلك نصف نمو الأجور الاسمية في الساعة فقط، ولهذا السبب يقول بنك اليابان إن التضخم لم يصبح مستقراً أو مستداماً بعد، ما لم يكن هناك مزيد من الأجور في الساعة.
وبدأ تضخم مؤشر أسعار المستهلكين في اليابان في التباطؤ، ومن المفترض أن يكون أقل قرب نهاية عام 2024 بسبب انخفاض المساهمات من أسعار المواد الغذائية والموارد وتناقص تأثير الين الياباني الأضعف، وبافتراض استمرار نمو الأجور، سيصبح التضخم أيضاً أكثر استدامة، وفق ما تشير المذكرة. وفي ظل ظروف تباطؤ التضخم على المدى القريب والانكماش الضحل للناتج المحلي الإجمالي في اليابان قرب نهاية هذا العام وبداية العام المقبل، فمن المرجح أن يستغرق بنك اليابان بعض الوقت قبل أن يتمكن من التخلي عن السيطرة على منحنى العائد وسعر الفائدة السلبي، إذ يتوقع “نومورا” أن يتخلى عن سعر الفائدة السلبي في الربع الرابع من عام 2024 وفي عام 2025.
بيئة صعبة في آسيا
أما في الاقتصادات الآسيوية فتبدو البيئة الخارجية صعبة، وفي الأشهر الستة إلى الـ12 المقبلة، يتوقع بنك “نومورا” أن تتباطأ دورة النمو، ويرى أدلة مبكرة على أن تراجع الصادرات وصل إلى أدنى مستوياته، ويرجع ذلك أساساً إلى دورة أشباه الموصلات، التي يبدو أنها قد تتحسن، ويتوقع أيضاً تباطؤ الطلب المحلي، مع خطر محتمل آخر خلال الأشهر الستة إلى التسعة المقبلة وهو ارتفاع معدل تضخم أسعار الغذاء بسبب ظاهرة النينيو التي تؤثر في إنتاج المحاصيل هذا العام، والحمائية الغذائية المتمثل في الحظر الذي فرضته الهند على تصدير جميع أصناف الرز، الذي يمكن توسيعه ليشمل منتجات أخرى.
ويضيف البنك الياباني “حتى الآن ارتفعت أسعار الرز في آسيا، مما أدى إلى آثار غير مباشرة في الاقتصادات الناشئة مثل الفيليبين، وحتى مع ارتفاع أخطار تضخم أسعار الغذاء، فإن النبأ الطيب بالنسبة إلى آسيا هو أن المقاييس الأخرى المختلفة للتضخم الأساسي بدأت في الانخفاض، وهذا يعني أن دورة رفع أسعار الفائدة في آسيا انتهت على الأرجح، وسط توقعات بتوقف ممتد لأسعار الفائدة هذا العام لمعظم الاقتصادات، يليه تخفيضات في أسعار الفائدة تبدأ في النصف الأول من عام 2024 في كوريا الجنوبية والهند وإندونيسيا والفيليبين”.
على المدى المتوسط لا يزال المحللون متفائلين في شأن آسيا، مع وجود أساسيات اقتصادية أقوى وحكومات مؤيدة للإصلاح وفرص نمو جديدة، وفي الوقت الحالي وبينما يركز المستثمرون على الأخطار العالمية فإن المتوقع أن تجتذب آسيا مزيداً من تدفقات رأس المال، وذلك تماشياً مع ثقلها المتزايد في الاقتصاد العالمي، ومن المرجح أن تكون الهند وجنوب شرقي آسيا أسرع الاقتصادات نمواً في هذا العقد.