تكرار الانقلابات والثورات في السودان المتعب
كتب رفيق خوري في “إندبندنت عربية”: السودان محكوم بمعادلة غير عادية منذ الاستقلال في عام 1956: تكرار الانقلابات العسكرية، وتكرار الثورات الشعبية. والمسلسل لافت: بين كل انقلاب وآخر نسخة زمنية قصيرة لحكم مدني وإجراء انتخابات ديمقراطية. وبين كل ثورة وأخرى انقلاب. كل حكم مدني كانت واجهته للأحزاب التقليدية، حزب آل مهدي من طائفة “الأنصار” وحزب آل الميرغني من طائفة “الختمية”. وخلف الواجهة أحزاب علمانية مثل الحزب الشيوعي وحزب البعث، وأحزاب إسلام سياسي بينها حزب الشيخ حسن الترابي. وكل حكم عسكري تحكمت به شلة صغيرة من الأصحاب والأقارب.
كل انقلاب رفع قائده شعار القضاء على الفساد والفوضى، وتعهد إعادة السلطة إلى المدنيين بعد فترة انتقالية، لكنه استمرأ السلطة والفساد ولم يغادر إلا بالقوة، باستثناء الانقلاب الذي قاده الفريق عبدالرحمن سوار الذهب، إذ أعاد السلطة إلى المدنيين في الموعد. وكل ثورة شعبية تولت دفة السلطة بعدها الأحزاب التقليدية، لا الذين صنعوا الثورة في الشارع. سنوات طويلة ضاعت من عمر السودان وشعبه الطيب الذي عانى أزمات مالية واقتصادية، من حيث كان البلد الخصب مؤهلاً لأن يكون “سلة الغذاء” للعالم العربي. وثلاثون سنة من تجربة “الإخوان المسلمين” بقيادة البشير انتهت، باعتراف أركانها، إلى مزيد من إفقار الشعب وفساد الحكام وضعف التعليم.
والقصة تتكرر. الثورة السلمية الشعبية الأخيرة التي دفعت دماً، وانضم إليها العسكر فصاروا شركاء فيها، ضيعت حتى اليوم أربع سنوات من انتصارها. سنتان من المشاركة الملتبسة بين “قوى الحرية والتغيير” والعسكر بعد ثورة مايو (أيار) 2018. وسنتان من انقلاب العسكر على المدنيين في 25 أكتوبر 2021. سلطة الشراكة انشغلت بأمور كثيرة من دون الالتفات الكامل إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة.
وسلطة العسكر فشلت في كل شيء. لم تستطع تأليف حكومة على مدى عامين. ولا تمكنت من إيجاد بديل مدني من قوى الحرية والتغيير. وتحت ضغوط الفشل والقوى الخارجية لم يجد قائد الانقلاب، الفريق أول عبدالفتاح البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو الملقب “حميدتي” قائد “قوات التدخل السريع”، مهرباً من العودة إلى الاتفاق مع الثوار. وهكذا تحركت جهود أميركا والسعودية وبريطانيا والإمارات وبعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد”، ونجحت في دفع العسكر والمدنيين إلى توقيع ما سمي “الاتفاق الإطاري”. وهو اتفاق غير كامل، لكنه يحدد خريطة الطريق في المرحلة الانتقالية الإضافية لمدة عامين إلى الانتخابات الديمقراطية والحكم المنبثق منها. والشعار هو “العسكر إلى الثكنات، والأحزاب إلى الانتخابات”.
عدد القوى التي شاركت في “الاتفاق الإطاري” كثير، لكن عدد القوى التي اعترضت على الاتفاق ليس قليلاً. وكانت جميعاً من أعمدة الثورة. وما كان من المفاجآت أن يتراجع قائد الجيش الفريق أول البرهان عن بعض ما في “الاتفاق الإطاري” أو أقله أن يبدو كذلك في خطاب أمام العسكر. وليس خارج المألوف أن يصر المعترضون المدنيون من الثوار على إكمال الثورة الشعبية السلمية لإسقاط الانقلاب، كما لو أنها ثورة ثانية في الثورة. ولا أحد يجهل كيف جرى ترتيب “الكتلة الديمقراطية” لإغراق الاتفاق الإطاري. فالضباط الكبار خائفون من تسليم السلطة إلى ثوار مدنيين يمكن أن يحاكموهم على ما فعلوه من إعادة لجماعة البشير و”الإخوان المسلمين” إلى المراكز الإدارية التي طردوا منها الثوار المدنيين من المعينين الجدد. وجماعة البشير والذين تعاونوا معهم قبل الانقلاب يحاولون الانضمام إلى الاتفاق الإطاري مستفيدين من إصرار قائد الجيش على ما يسميه توسيع المشاركة وفتح الباب أمام كل من يوحي أنه غسل ماضيه، بحيث تبقى الأرجحية للعسكر.
شيء من عمر بشير آخر في شخصية البرهان، وشيء من الحرص على إبقاء السودان متعباً. ومن هنا نزول “لجان المقاومة” إلى الشارع للتظاهر ضد الاتفاق الناقص. عسكر عنيد تغيره السلطة. وشعب يريد الخبز والحرية وبناء جيش وطني لحماية الأمن القومي، لا للانقلابات. و”إخوان مسلمون” يتربصون. وخلافات بين القوى المدنية كما بين المناطق. وكان الله في عون السودان وشعبه الطيب.