تقرير الصندوق.. المصارحة والمصداقية
كتب خالد صقر في صحيفة الشروق.
جاء تقرير صندوق النقد الدولى عن وضعنا الاقتصادى صريحا. وتنطبق هذه الدرجة العالية من المكاشفة أيضا على خطاب النوايا المقدم من الحكومة والملحق بالتقرير. وصف التقرير الأسباب التى أدت بنا إلى ما نحن عليه ورسم خطاب النوايا طريق الخلاص من هذا الوضع. التقرير منشور بالفعل على الصفحة الإلكترونية للصندوق. والرجاء هو أن تقوم الحكومة بنشره أيضا على صفحاتها مع ترجمته باللغة العربية وإضافة ملخص يشرحه لعامة المواطنين والمواطنات بدون اصطلاحات فنية معقدة.
هذه المصارحة وتنفيذ النوايا ــ نصا وروحا ــ أمر ضرورى لضمان التأييد الشعبى رغم الصعوبات، ولتحسين المصداقية حتى تتوقف المضاربات وتطمئن الأسواق، لنسرع بجنى ثمار القرارات الصعبة فلا تذهب هباء بعد أن تحمل الشعب أعباءها. والمكاشفة تؤدى كذلك إلى الاستفادة من تجربتنا الماضية وإدراك المخاطر حتى لا نقع فيها مرة أخرى. فما هى الدروس الثلاثة الرئيسية المستخلصة من التقرير، وما هى النواقص التى لم يتعرض لها أو ترك معالجتها لمرحلة أخرى؟
• • •
الدرس الأول والأهم هو ضرورة حساب المخاطر والاستماع بحرص إلى الخبراء المتخصصين حتى لا يقع المحظور من حيث لا ندرى. فقد ركز الصندوق على أننا فى حرصنا على التقدم السريع لم نراعِ بشكل كاف المخاطر المحتملة التى يراعيها خبراء الاقتصاد عادة عند تصميمهم لخطط النمو. وهذا ضرورى خاصة أننا نعيش فى عالم متقلب ومنطقة محفوفة بالمخاطر. فقد نفذنا العديد من الاستثمارات التى تدر عائدها فى الأجل الطويل. وبما أن القدرة التمويلية لأية دولة محدودة فقد أدى هذا التوجه إلى مزاحمة الاستثمارات التى تدر عائدا أسرع وتوفر فرص العمل بشكل أكثر استدامة. ونتيجة لقلة العوائد الفورية وضخامة الاستثمارات ذات العائد المستقبلى كانت النتيجة الطبيعية هى زيادة الاقتراض. إذ وصل حجم الدين العام ما يماثل إجمالى دخلنا السنوى. وزاد الاعتماد على الديون قصيرة الأجل. وبالتالى أصبح من الصعب سداد أقساطها وفوائدها بدون الحصول على ديون جديدة تحل محلها وبأسعار فائدة متزايدة. فوصل حجم المبالغ المطلوبة لسداد الأقساط والفوائد سنويا مستويات عالية تقترب من نصف دخلنا السنوى وتفوق إيراد الحكومة بأكمله. يضعنا هذا فى موقف حرج إذا توقفت الأسواق عن إقراضنا، كما يترك حيزا ضيقا للمصاريف الحكومية الأخرى على الأمن والعدالة والصحة والتعليم.
تقرير الصندوق يمتاز عما سبقه فى صراحته الشديدة فى تعداد المخاطر التى نواجهها. وفى ظل هذه المخاطر تزداد أهمية المصداقية فى تنفيذ سياسات الإصلاح حسب الجدول الزمنى المحدد فى خطاب النوايا. فكلما زادت المصداقية اطمئن المواطنون والمواطنات وتفاءلت الأسواق فيستقر سعر الصرف وينخفض سعر الفائدة بسرعة أكبر.
• • •
الدرس الثانى هو أن الاعتماد الكبير على الجهات الحكومية فى الاستثمار قد يضر النشاط الاقتصادى للأفراد والقطاع الخاص. والأصل أن يصمم الاستثمار العام بشكل يكمل ويشجع نشاط الأفراد والشركات الخاصة، ولكن الزيادة الكبيرة فيه تأتى بعواقب غير مرجوة، فدراسة الجدوى لمشروع حكومى واحد قد تبدو مثمرة إن لم تأخذ فى الاعتبار التبعات على الاقتصاد الكلى من حيث سحب التمويل البنكى والعملة الصعبة وإمدادات المرافق من كهرباء ومياه مما يؤدى لخفض المتبقى للأفراد والقطاع الخاص.
الأخطر من ذلك هو أن تُنفذ هذه الاستثمارات عن طريق مـؤسسات عامة خارج الميزانية، فهذا يقلل من إمكانية تنسيق الأولويات وتوقيت التنفيذ مما قد يعرض الطلب على الموارد المتاحة فى الاقتصاد المحلى أو الطلب على المدخلات التى تتطلب عملة صعبة إلى زيادات متزامنة تؤدى للتضخم وانهيار سعر الصرف والاختناقات فى الأسواق. فإدارة الاقتصاد تستلزم فى أحد جوانبها ما يشبه مراقبة الأوانى المستطرقة. فما تصبه مؤسسة فى أحد الأوانى يزيد الضغط فى أوانٍ أخرى قد تكون خارج منظور تلك المؤسسة التى تركز على الفائدة من استثماراتها دون مراعاة أشمل لأثرها على سعر الفائدة والصرف. فإذا تم إنفاق ضخم على عديد من المشروعات فى وقت واحد فإنه يزيد من الضغوط على الأسعار وعلى سعر الصرف. فالإنفاق يتحول فى النهاية إلى دخل للأفراد العاملين فى إنشاء المشروعات ولأصحاب المدخلات اللازمة لإنشائها، وبالتأكيد فإن زيادة دخل الأفراد مطلوب وبشدة. ولكن يجب هندسة هذه الزيادة بشكل يتجنب ضغوطا غير محسوبة وبالتالى انهيارا أكبر فى الدخل فى مرحلة تالية. وهذا ما يديره بحنكة الاقتصاديون المتخصصون فى الاقتصاد الكلى. وكل الأمل أن يكون للجنة الوزارية المرتقبة لمتابعة وتنسيق الإنفاق الاستثمارى والقرار المتخذ بضم أكثر من خمسين مؤسسة اقتصادية للميزانية العامة دور مفيد لتحقيق ذلك.
• • •
الدرس الثالث هو ضرورة الحذر عند ابتكار طرق غير اعتيادية للوصول إلى أهدافٍ طريق الوصول إليها معروف. فالمبادرات التى لا تعالج الأساس تؤدى لمزيد من الأحمال وتفعل فعل المسكنات المضرة. وينطبق ذلك على الإفراط فى فرض الرسوم المتعددة بدلا من التركيز على ضرائب معدودة. وينطبق كذلك على استخدام البنوك الحكومية لتنفيذ سياسات مالية أو نقدية يكون الأصل فيها أن تنفذ بواسطة وزارة المالية أو البنك المركزى. ومثال ذلك توفير الدعم على القروض نيابة عن وزارة المالية أو زيادة سعر الفائدة على الودائع والتدخل فى توجيه سعر الصرف نيابة عن البنك المركزى. وقد يؤدى ذلك إلى عواقب غير مرجوة على البنوك الأخرى كما يقلل من فعالية هذه الإجراءات. فالدعم يجب أن توفره الحكومة نفسها وتتيحه إن لزم الأمر عن طريق جميع البنوك وليس بعضها. والسياسات النقدية وإدارة سوق النقد الأجنبى يجب أن تتم عن طريق البنك المركزى حتى لا نخاطر بانكشاف الوضع المالى للبنوك. ومن المشجع هنا أن خطاب نوايا الحكومة يتضمن قَصْر القيام بهذه المهام على وزارة المالية والبنك المركزى.
• • •
أما عن القرارات التى لم يتم معالجتها بشكل كافٍ فى تقرير الصندوق أو خطاب النوايا فأهمها هو حجم الإنفاق على الحماية الاجتماعية. فقد أدرك الصندوق عبر الزمن أن مساعدة الفقراء واجب ضروري. ولذلك أصبحت قروضه تتضمن فى شروطها ألا يقل حجم المساعدات النقدية للفقراء عن حد معين يتم الاتفاق عليه مع الحكومة ويعلن فى التقرير المنشور.
كان الرجاء أن يتم زيادة هذا الحد بمعدل أكبر ليتماشى مع التضخم، ومن الحكمة ألا يتم ذلك دون التحصل على إيرادات كافية وإلا أدت الزيادة فى الإنفاق لمزيد من الارتفاع فى الأسعار بشكل مضطرد، وكان من الممكن توفير هذه الإيرادات عن طريق تحصيل ضرائب معقولة على وحدات السكن الفاخرة المملوكة لأغنياء المجتمع، كما يمكن تحصيل المزيد من الإيرادات عن طريق إدخال الفوائد على الودائع فى الوعاء الضريبى للأفراد، وبذلك لا تزيد الضريبة على محدودى الدخل أصحاب الودائع الصغيرة بينما تزيد قليلا على أصحاب الودائع المتوسطة وتزيد بالأساس على الأثرياء أصحاب الودائع الضخمة، ولكن يجب مراعاة أن الودائع فى مصر تلعب دورا هاما فى توفير معاش للأشخاص المتقاعدين. وهذا يعنى أنه لا يجب فرض ضرائب على فوائدها إلا فى إطار حزمة للتقوية الفورية لوسائل الحماية الاجتماعية خاصة الرعاية الصحية. وهنا تتضح مرة أخرى أهمية زيادة المصداقية حتى يطمئن المواطنون والمواطنات أن الإيراد من تحديث المنظومة الضريبية سيوجه بكفاءة وشفافية إلى تحسين الخدمات الاجتماعية وبشكل مباشر وفورى. والعائد الحالى العالى على الودائع يشكل فرصة مواتية لتحقيق هذا التطوير بدون ضرر على الفقراء ومتوسطى الدخل وبتكلفة معقولة على الأثرياء أصحاب الودائع الضخمة حيث سيظل عائدها مرتفعا حتى بعد احتساب الضريبة. بل ومن الممكن رفع حد الإعفاء من ضريبة الدخل ليعفى المزيد من الأسر منها. ويا حبذا لو اتُخذت هذه القرارات من خلال حوار مجتمعى ينقحها ويقلل من آثارها الجانبية ويضمن التوافق الشعبى عليها.
إن زيادة الشفافية والمشاركة فى مناقشة وانتقاء خياراتنا الاقتصادية ستحشد الدعم لها وتضمن مشاركة أغنياء الوطن فى دعم فقرائه. وستؤدى زيادة المصداقية والحوكمة لاصطفاف الجميع لدعم الإصلاح وتقدم بلادنا إلى مستقبل أفضل.