رأي

تغيير الحكومة أم السياسات في مصر

كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.

مصر تحتاج إلى تغيير تدريجي في التصورات التي يقوم رئيس الحكومة بتنفيذها، وسواء أكان مدبولي مستمرا أم لا ففي الحالتين هناك حاجة إلى منهج يتناسب مع تطلعات الجمهورية الجديدة وطموحاتها.

منذ أن أدى الرئيس عبدالفتاح السيسي اليمين الدستورية لفترة رئاسية جديدة أخيرا، وعيون المصريين مسلّطة على الحكومة التي يرأسها الدكتور مصطفى مدبولي، وهل سيتم تغييرها كاملة أم تدخل عليها تعديلات محدودة؟

ترك الأمر حتى الآن لتقديرات مراقبين وجدوا فيه علامات متناقضة، بعضها يؤكد الاستمرار استنادا إلى دستور لا يُلزم الحكومة بتغييرها مع بداية فترة جديدة لرئيس الدولة، وبعضها يميل إلى التغيير أو التعديل انطلاقا من أعراف سياسية سائدة.

ويعكس هذا الخلاف حالة صحية في البلاد، وهو مؤشر على إمكانية فهم ما سوف يجري خلال الفترة الرئاسية الثالثة للسيسي، فالتغيير أو عدمه له دلالات سياسية يمكن من خلالها استكشاف طبيعة المرحلة المقبلة، والتغيير سواء شمل رئيس الحكومة ووزارات سيادية أم لا ستكون له معان كبيرة بشأن قضايا عديدة وآليات التعامل معها.

تشير المعلومات التي رشحت حيال شكل الحكومة التي سوف تصاحب الرئيس السيسي في فترته الرئاسية الجديدة إلى تضارب في الرؤى، فبعد ظهور مؤشرات على رحيل حكومة مدبولي قبل اليمين الدستورية طفت أخرى تؤيد استمرارها، ومن روجوا لتغيير مدبولي عاد بعضهم وأثنوا عليه عقب توقيع صفقات استثمارية وفرت عوائد دولارية للدولة، وألمحوا إلى بقائه لمواصلة البرنامج الاستثماري، ما أثار تكهنات حول وجود فرصة كبيرة لبقاء الرجل على رأس الحكومة فترة أخرى، إذ يبدو منسجما مع الرئيس السيسي، والذي يميل للتغيير عند الضرورة القصوى.

بعيدا عن بقاء مدبولي وحكومته كاملة أو بعضها، لن يشعر المصريون بوجود تغيير حقيقي ما لم يحدث تحول في السياسات التي أدت إلى أخطاء في السنوات الماضية عمقت جراح اقتصاد بات محور اهتمام الرئيس والحكومة والمواطنين، وهؤلاء لا يعنيهم حجم الإصلاحات السياسية إذا لم تفض إلى تغيير ملموس في الواقع الاقتصادي، فهو نقطة البدء للوصول إلى صيغة قد تغير وجه الحياة في مصر، وهو النقطة الرئيسية في الجدل الدائر حول التغيير حاليا، فلا يهم اسم رئيس الحكومة وما إذا كان مدبولي سوف يستمر أم لا، فالمهم أن يصبح للتغيير وجه إيجابي.

تعزز رئاسة مدبولي للحكومة الجديدة المصاحبة للرئيس السيسي في بداية ولايته الثالثة عدم حدوث تغيير في التوجهات الرئيسية، وتؤكد قناعة الرئيس به أنه حقق إنجازات الفترة الماضية، بينما تغييره الذي كان خيارا مناسبا لتحميله إخفاقات السنوات السابقة، إلا أنه ينطوي على إشارة بعدم دقة اختياره والبقاء نحو ستة أعوام متواصلة، وهي أكبر فترة قضاها رئيس حكومة في موقعه منذ ثورة يناير 2011.

أكد الدكتور مدبولي أنه رجل تكنوقراط بامتياز ومسؤول تنفيذي هادئ، لأن من يرسم السياسات ويلعب دورا محوريا في تحديد بوصلتها في مصر هو رئيس الدولة، ويتحمل المسؤولية في العقل الجمعي للمواطنين، ومهما كانت صلاحيات رئيس الحكومة، وهي كبيرة وفقا للدستور المصري، ودوره في التصورات التي ينفذها مجلس الوزراء، فرئيس الدولة أول من توجه إليه الإيجابيات والانتقادات.

تراجعت الأهمية المعنوية لرئيس الحكومة في تحدي أطر وهياكل السياسات العامة منذ أن طغت سلطة رئيس الدولة خلال العقود الستة الماضية على جميع السلطات الأخرى، ولا يعرف غالبية المصريين سوى الرئيس لمحاسبته، ينسبون له الإنجازات ويحملونه الإخفاقات، حيث أزيلت الكثير من الحدود الفاصلة بين صلاحيات كل سلطة.

قد يلجأ الرئيس السيسي إلى إحداث قدر من التوازن والفصل بين السلطات خلال فترة رئاسته الثالثة والأخيرة، يصبح مقدمة أو تمهيدا ناعما لانتقال السلطة إلى رئيس آخر بعد ست سنوات، إذ عاصر السيسي فترة حرجة في بدايات حكمه مليئة بالمشاغبات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، عبّر عنها بكلمات توحي بعدم وجود أركان حقيقية للدولة وقتها، واستخدم عبارة “شبه دولة” للتأكيد على حجم الأزمات التي عصفت بالبلاد، ونجح في تخطي جزء كبير منها واستعادة الأمن والاستقرار.

تحتاج مصر إلى تغيير تدريجي في التصورات التي يقوم رئيس الحكومة بتنفيذها، وسواء أكان مدبولي مستمرا أم سيتم إسناد الحكومة إلى شخص آخر، ففي الحالتين هناك حاجة إلى منهج يتناسب مع تطلعات وطموحات الجمهورية الجديدة، يتوافق مع مرحلة الانطلاق التي بدأت فعليا مع أداء اليمين الدستورية، ويلتمس كثيرون العذر لمبدولي ومن سبقوه، لأن مصر مرت بمرحلة حرجة وقضت سنوات عدة في مكافحة الإرهاب ومطاردة الإخوان وبتر المتطرفين، وفُرضت سياسات رآها البعض قاسية.

مع القضاء على الإرهاب وتقويض الإخوان ومحاصرة فلول المتطرفين، أصبحت البيئة مهيأة لتغيير كبير في السياسات، ومن يتمسحون في تراكم الصعوبات الإقليمية لتبرير عدم التغيير عليهم إدراك أن هذه المسألة تتطلب نوعا خاصا من التعامل معها.

نوع يختلف عما خبرته حكومات سابقة، في مقدمتها حكومة مدبولي التي جرى تكليفها في ظروف لم تكن مواتية داخليا، وكانت الأوضاع في المنطقة قلقة والنزاعات والصراعات متوافرة، لكنها بعيدة عن القتامة الراهنة.

ليس بالضرورة أن يكون رئيس الحكومة خبيرا اقتصاديا أو عالما سياسيا، لكن لا بد أن يكون مدركا لطبيعة التطورات المزعجة التي تمر بها الدولة في الداخل، وعمق التوترات التي تحيط بها في الخارج، ولديه أجندة ذات معالم واضحة، لتجاوز التطورات الملتبسة والتوترات المتشابكة، ويملك تنسيقا واسعا مع رئيس الدولة الذي حدد السياسات، ولعب دورا السنوات الماضية في التصدي بنفسه للكثير من الأزمات، وعليه أن يمنح هامشا من الحركة لرئيس حكومة يمتص عنه جانبا من الصدمات.

بدأت معالم تفاعل نسبي من قبل رئيس الحكومة مصطفى مدبولي مع بعض التطورات الداخلية والإقليمية مؤخرا، وخرج عن إطار الصمت الذي صاحبه خلال السنوات الماضية، وهي خطوة توفر له مساحة كبيرة من الاشتباك مع قضايا حيوية، وتخفف من الضغوط الواقعة على رئيس الدولة، والذي كان حاضرا، بل مشتبكا بصورة مباشرة في أحداث هي من صميم عمل رئيس الحكومة والوزراء المعاونين له.

هذه واحدة من ملامح التغيير التي يمكن أن تدخل على شكل الحكومة المقبلة، في وجود مدبولي أم لا، فقد أخذ الرئيس السيسي على عاتقه القيام بمهام فوق طاقته، حفّزت قوى معارضة ضده، وحملته ما لا يجب أن يتحمله مرتين. مرة لأنه مسؤول عن وضع السياسات، ومرة لأن الحكومة هي الجهة التنفيذية وعليها أن تتحمل جانبا كبيرا من المسؤولية مباشرة، وتحتاج هذه المسألة إلى ترتيبات لفك بعض الطلاسم السياسية، وإعادة صياغة للمنهج الذي تعمل بموجبه الحكومة في المرحلة القادمة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى