تركيا والكرد.. سلام في الداخل وحرب في الخارج

كتب حسني محلي, في الميادين:
دمشق لا تستطيع تجاهل “توصيات وتعليمات وربما أوامر” أنقرة فيما يتعلّق بمستقبل العلاقة بينها وبين الكرد، أي وحدات حماية الشعب الكردية وهي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي.
بعد أن دعي زعيم حزب الحركة القومية دولت باخشالي (وهو حليف إردوغان) زعيم حزب العمال الكردستاني عبّد الله أوجلان للمشاركة في اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب والإعلان عن وقف العمل المسلح ضد تركيا وحلّ الحزب بشكل نهائي، شهدت تركيا تطوّرات مثيرة فيما يتعلّق بالقضية الكردية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وعلى الرغم من أنّ أوجلان لبّى طلب باخشالي وأعلن في 27 شباط/فبراير عن قراره بدعوة قيادات الحزب الموجودة في جبال قنديل شمال العراق لوقف العمال المسلح وحلّ الحزب إلا أنّ السلطات الحكومية لم تسمح له بالخروج من السجن، وهو فيه منذ شباط/فبراير 1999، والمجيء إلى البرلمان.
وقرّر بدوره في نهاية المطاف تشكيل لجنة خاصة تضمّ ممثّلي كلّ الأحزاب للاتفاق على صيغة وطنية تساهم في حلّ المشكلة الكردية سياسياً وديمقراطياً.
ويعرف الجميع أنّ الاتفاق على تفاصيل هذه الصيغة لم ولن يكن سهلاً مع استمرار التوتر الخطير بين الرئيس إردوغان وأحزاب المعارضة وبشكل خاص الشعب الجمهوري الذي يتعرّض لسلسلة من المضايقات القضائية بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو وخمسة عشر آخرين من رؤساء بلديات المدن المهمة، ومنها أنطاليا وأضنة وأزمير وغيرها.
وكانت هذه التناقضات كافية بالنسبة لقيادات العمال الكردستاني في شمال العراق كي لا تستعجل في اتخاذ المزيد من القرارات وتقديم تنازلات جديدة تلبية لتوصيات أوجلان الذي سمحت له السلطات الحكومية في 9 تموز/يوليو بالحديث إلى هذه القيادات عبر فيديو مسجّل سبق “مراسم” حرق ثلاثين من عناصر الكردستاني أسلحتهم في شمال العراق.
وانعكس هذا التردّد سلبياً على مواقف “قسد” وقائدها العسكري مظلوم عبدي وهو من تلامذة عبد الله أوجلان وبدأ يتخذ موقفاً أكثر تشدّداً في علاقاته مع دمشق.
ويعرف الجميع أنها أي دمشق لا تستطيع تجاهل “توصيات وتعليمات وربما أوامر” أنقرة فيما يتعلق بمستقبل العلاقة بينها وبين الكرد، أي وحدات حماية الشعب الكردية وهي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي.
ووجد الشرع وطاقمه المقرّب منه أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه بسبب تشابك العلاقات بينهم وبين واشنطن ولندن وبرلين وباريس وأنقرة والرياض وأبو ظبي والدوحة وعمّان، بل وحتى موسكو و”تل أبيب” التي أجبرت دمشق على الجلوس إلى طاولة المفاوضات في باريس وبرعاية أميركية وضوء أخضر من تركيا التي أدّت دوراً أساسياً في الحوار السوري-الإسرائيلي عبر الوسيط الأذربيجاني إلهام عالييف.
كلّ ذلك مع المعلومات التي تتحدّث عن ضغوط تركية مباشرة على الرئيس الشرع خلال زيارة الوزير هاكان فيدان إلى دمشق في الـ7 من الشهر الجاري، وإقناعه بضرورة القيام بعمل عسكري ضد “قسد” شرق الفرات وبدعم من الجيش التركي الموجود أساساً في المنطقة الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض، ويوجد فيها الآلاف من مسلحي ما يسمّى بالجيش الوطني السوري الذي تأسس في أنقرة صيف 2019 ليحلّ محلّ ما يسمّى بالجيش السوري الحرّ الذي تأسس هو الآخر في تركيا صيف 2011.
جاء وزير خارجيته الشيباني إلى أنقرة في الـ12 من الشهر الجاري لتخفيف الضغوط بعد التهديدات الأميركية والفرنسية بل وحتى الإسرائيلية، وسبق ذلك المؤتمر الوطني الذي نظمته “قسد” في الحسكة في الـ8 من الشهر الجاري. وأثار هذا المؤتمر غضب حكّام دمشق الذين اتهموا الكرد بعدم الالتزام باتفاق 10 آذار/مارس بين الشرع ومظلوم عبدي، في الوقت الذي يستمر فيه التعنّت الكردي والمطالبة بالاعتراف لهم بكامل الحقوق القومية في إطار دستوري بضمانات أميركية ودولية تمنع أي عدوان داخلي أو خارجي (تركي) محتمل ضد الكرد مستقبلاً.
ومن دون أن تمنع كلّ هذه المعطيات والتناقضات بعض الأوساط من الحديث عن وساطة فعّالة يقوم بها السفير توم برّاك بين كلّ الأطراف لإقناعها بضرورة “العمل الهادئ المشترك”، لمنع أي توتر يعرقل مساعي واشنطن لصياغة المستقبل السوري وفق المزاج الإسرائيلي، مع مراعاة المشاريع والمخططات التركية التي تهدف في نهاية المطاف للتحكّم بالورقة الكردية في الداخل والخارج وبشكل خاص في سوريا التي يرى فيها الرئيس إردوغان امتداداً جغرافياً ودينياً ومذهبياً وتاريخياً لتركيا جمهورياً وعثمانياً.
ودفع ذلك أنقرة إلى بذل المزيد من العمل لمنع أيّ طرف إقليمي ودولي من التأثير على مسار الملف الكردي تركياً وسورياً وعراقياً، وحيث العلاقة الوطيدة بين أنقرة وإقليم كردستان العراق الذي تحكمه عائلة البرزاني المقرّبة شخصياً من الرئيس إردوغان.
وسبق لها أي عائلة البرزاني أن توسّطت بين أنقرة وكرد سوريا منذ بدايات ما يسمّى بـ “الربيع العربي” الذي أدّت فيه تركيا الدور الريادي.
وطلبت أنقرة في الأعوام 2013-2015 من الوحدات الكردية التمرّد ضدّ دمشق مقابل وعود بتلبية كلّ مطالبها بعد الإطاحة بنظام الأسد، وهو ما لم تلتزم به تركيا على الرغم من دورها وعلاقتها الوطيدة مع حكّام دمشق الجدد ووضعهم يزداد تعقيداً يوماً عن يوم.
ومن دون أن يمنع كلّ ذلك أطرافاً مختلفة بما فيها واشنطن من الاستمرار في الوساطة بين أنقرة وكرد سوريا، ويتوقّع البعض لهم أن يتفقوا مع تركيا حول صيغة ما تضمن حقوقهم ليس فقط في سوريا بل في تركيا طالما أنهم امتداد لكرد تركيا الذين يتحكّم عبّد الله أوجلان بمصائرهم في السلم أو الحرب.
وكما كان الوضع عليه منذ 47 عاماً، يبدو أنّ أنقرة تسعى لإسدال الستار على هذه السنوات مستغلة الوضع الجديد في سوريا، وهي تعتقد أنّ هذا الوضع سيساعدها لحسم الملف الكردي بالاتفاق أو من دونه. أوّلاً سورياً وعبر دمشق وثانياً داخلياً عبر أوجلان الذي يبدو أنه هو الآخر على استعداد للتجاوب مع بعض الحسابات والمشاريع والمخططات التركية وأياً كانت أهدافها الخارجية.
ويعتقد أوجلان أنّ هذه المشاريع والمخططات قد تساهم في خروجه من السجن وتجعل منه “زعيما قومياً”، ليس فقط لكرد تركيا وسوريا بل حتى كرد العراق وإيران بعد أن نجحت الوحدات الكردية في نضالها ضدّ “داعش” وبالتنسيق والتعاون والعمل المشترك مع واشنطن والعواصم الغربية التي تثمّن عالياً الجانب العلماني لهذا الوحدات.
وأثبتت تطوّرات سوريا الأخيرة أنّ هذه العواصم ما زالت العنصر الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث الإقليمية التي يتمنّى أو يريد لها الرئيس إردوغان أن تساعده على إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية بعد ما حقّقه من نجاحات وانتصارات مهمة في المنطقة منذ ما يسمّى بـ “الربيع العربي”، حيث لتركيا وجود عسكري كبير أو محدود في سوريا والعراق وليبيا والصومال والسودان وتشاد وأذربيجان والبوسنة و كوسوفو ودول أخرى.
ويبقى الرهان في نهاية المطاف على احتمالات أن يتقبّل الكرد بدورهم هذا الواقع الإقليمي الجديد خاصة إذا تبيّن لهم أنّ واشنطن تدعم هذا المسار الجديد الذي قد يتطلّب منهم الرضوخ للمطالب التركية التي يبدو أنها أمام امتحان صعب بسبب الحسابات الإسرائيلية، وبغياب مواقف الأنظمة العربية التي فقدت مصداقيّتها أمام شعوبها بعد أن رهنت كرامتها بيد واشنطن.
ولا يدري أحد هل وكيف ولماذا ترجّح تارة الكرد على الأتراك وتارة أخرى الأتراك على الكرد شريطة أن يكونوا جميعاً معاً أو على انفراد إلى جانبها في حساباتها الإقليمية.
والأولوية فيها دائماً للكيان العبري بحساباته السياسية والاستراتيجية والعقائدية التي عبّر عنها نتنياهو عندما تحدّث في الـ13 من آب/أغسطس عن “دولة إسرائيل الكبرى” التي يريد الصهاينة لها أن تحكم المنطقة بكردها وعربها وأتراكها وأياً كانت حساباتهم الضيّقة التي اختلقها الصهاينة وحلفاؤهم في الغرب الإمبريالي.
ونجح دائماً في توظيف ما يكفيه من العملاء والمتواطئين العرب والكرد والأتراك الذين يريد لهم أن يكونوا إلى جانبه ضد كلّ الشرفاء والمخلصين والأوفياء لأوطانهم وقومياتهم ودينهم من العرب والكرد والأتراك والفرس والآخرين من أصحاب هذه الجغرافيا منذ الآف السنين.