تركيا وإسرائيل… أبعد من حرب على التاريخ

كتب جيرار ديب, في العربي الجديد:
جدّد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان (19/9/2025) رفضه إعطاء إسرائيل نقشاً من القدس، تقول تل أبيب إن تركيا تحتفظ به من عهد الدولة العثمانية. وتقول تركيا إنه لا يمكن أن تسلّم أثراً من القدس سوى للدولة الفلسطينية، لأن إسرائيل تحتلّ المدينة منذ 1967، وليست لها عليها أيّ سلطة شرعية. وقال رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (20/9/2025) إن تركيا تحتفظ بنقش أثري يؤكّد صلة اليهود بالقدس، وترفض تسليمه لإسرائيل. يتضح الخلاف بين أنقرة وتل أبيب المرتبط بهُويَّة القدس، إذ تصرّ تل أبيب على تهويدها، وقد رفضت حكومتها جملةً وتفصيلاً الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية، باعتبار أن وجود هذه الدولة هو خطر وجودي يهدّد أمنها. أما أنقرة فتربط بين الحرب على غزّة، المستمرّة منذ أكثر من سنتَين، وما كشفه نتنياهو في إحدى مقابلاته من سعي إلى تحقيق حلمه في “إسرائيل الكبرى”.
أمام مشروع إسرائيل، تجد تركيا نفسها في صلب الصراع الدائر في غزّة، لاعتبارات كثيرة منها انتماء حركة حماس إلى جماعة الإخوان المسلمين، ولأن القضية التي تدافع عنها محورية إسلامية لا يمكن لمن يريد إعادة بناء السلطنة، ولو بشكلها المعصرن، التخلّي عنها. أخذ الخلاف التركي الإسرائيلي يتعمّق مع استمرار حرب الجيش الإسرائيلي على قطاع غزّة، ومع الإصرار على توسيع دائرة الحرب، ولا سيّما بعد الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة. هذا الأمر جعل منسوب الحذر يرتفع عند أنقرة، في ظلّ عدم وجود ضمانات حقيقية أميركية لحلفاء واشنطن في المنطقة من الجنون النتنياهوي. فبعد ساعات من شنّ إسرائيل هجوماً على قطر، التي تعتبرها الولايات المتحدة حليفاً رئيساً من خارج حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وواحدة من أقرب شركاء واشنطن في الخليج، سرعان ما حوّل المعلّقون المؤيّدون لإسرائيل انتباههم إلى تركيا.
هناك احتمال كبير أن تكون أنقرة وجهة إسرائيل العسكرية التالية، رغم أن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب (20/9/2025) استعداده رفع العقوبات الأميركية المفروضة على قطاع الدفاع التركي بصورة “شبه فورية”، إن توقفت تركيا عن استيراد النفط الروسي. إن زاد الشرط الأميركي منسوب الحذر التركي، لأن المضي في قبول المقترح الأميركي يعني فقدان دور متوازن لتركيا، التي عملت في تمتينه منذ الحرب الروسية على أوكرانيا، بعدما رفضت أنقرة فرض العقوبات على روسيا، وهي اليوم تلعب دوراً أكبر من شراء النفط الروسي، فتتحايل الشركات التركية على العقوبات لحماية الشركات الروسية. في خضم التوتّرات بين البلدَين، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، خلال جلسة للبرلمان، خُصِّصت لمناقشة تطوّرات الأوضاع في القطاع، إنهاء أنقرة جميع علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل أواخر الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، في خطوة وصفها بأنها تأتي احتجاجاً على الحرب في غزّة.
أعاد تسليم إسرائيل منظومة الدفاع الجوي المتطوّرة “باراك إم إكس” إلى قبرص (الشهر الجاري) إشعال نقاشات ساخنة في أنقرة حول التوازنات العسكرية في الشرق الأوسط
لا نقاش في أن قرارات أنقرة مرتبطة بالقضية الفلسطينية، ولكن الخلاف بين البلدَين بدأ يأخذ شكل الصراع الاستراتيجي حول تبنّي الطرفين نظرية “إحياء الماضي”، إذ إن رفض تركيا تسليم النقش، دليل على رفض الاعتراف بالحضور اليهودي في المنطقة، وإن المزاعم كلّها، التي تعمل على ترسيخها حكومة نتنياهو المتطرّفة، ليست سوى سرديات صهيونية لا ترتبط بالواقع ولا بالتاريخ. وعلى مدى أشهر، صعّدت وسائل الإعلام المؤيدة لإسرائيل لهجتها ضدّ تركيا، واصفةً إياها بـ”أخطر عدو لإسرائيل”، مستندة إلى النفوذ التركي شرقي البحر الأبيض المتوسط، وفي إعادة بناء سورية ما بعد الحرب، مطلقة على ذلك مسمّى “خطر صاعد جديد”. لقد حدّدت إسرائيل رؤيتها، وهي جعل دول الجوار ضعيفةً وغير فعّالة ومنقسمة، الأمر الذي وضعها في تنافس جيوسياسي مع أنقرة، على اعتبار أن تصرفات الأخيرة متعارضة مع الأجندة التركية لإقامة دول مركزية قوية، بدلاً من دول لا مركزية يمكن للقوى المتعدّدة السيطرة عليها، وسورية نموذجاً.
تنظر إسرائيل إلى تركيا على أنها التحدي المحتمل التالي لهيمنتها الإقليمية، بعدما هاجمت تل أبيب طهران وأذرعها في المنطقة. لهذا، باتت الحرب بين البلدَين حتميةً، في ضوء تضارب المصالح، والاختلاف في الرؤية الاستراتيجية، رغم الإيجابية التي اتصفت بها زيارة الرئيس أردوغان إلى واشنطن، وتوقيع صفقة تجارية وعسكرية فاقت 50 مليار دولار أميركي. ولا يخفى على أنقرة الاستراتيجية التي تعتمدها إسرائيل في تطويق تركيا في البحر المتوسّط، عبر توطيد العلاقة مع كل من قبرص واليونان. أعاد تسليم إسرائيل منظومة الدفاع الجوي المتطوّرة “باراك إم إكس” إلى قبرص (الشهر الجاري) إشعال نقاشات ساخنة في أنقرة حول التوازنات العسكرية في الشرق الأوسط. تدرك تل أبيب أن الخطورة لا تكمن فقط في الرؤية، بل أيضاً في العقيدة التي تشكّل صلب النظام في تركيا، إذ إن حزب العدالة والتنمية الحاكم يعتبر فرعاً لـ”الإخوان المسلمين”، الذين لا يؤمنون بالدولة الإسرائيلية على اعتبارها دولةً مارقة. لهذا تعتبر الصهيونية الحاكمة في إسرائيل أن تركيا “خطر صاعد، ما يعني أن الأمر لا يتوقّف على النقش الحجري، بل يرتبط بهُويَّة القدس والصراع الاستراتيجي العميق بين البلدَين.