تركيا بين قرنين | “قرن تركيا”.. التأسيس الجديد.
كتب جلال الورغي في الجزيرة.
تحيي تركيا في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ذكرى مرور 100 عام على إعلان الجمهورية التي أعلنها مصطفى كمال أتاتورك في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، عقب حرب الاستقلال التي خاضتها تركيا، لإنقاذ البلاد من حرب استعمارية متعددة الجبهات والأطراف، كانت تخاض للاستيلاء على إرث الإمبراطورية العثمانية.
تركيا تدشن المئوية الثانية للجمهورية، في سياقات تتشابه إلى حد كبير مع السياقات التاريخية لإعلان الجمهورية قبل 100 عام. فلقد كان الإعلان عن الجمهورية خلاصة لصراع دولي كانت تركيا العثمانية أحد أطرافه وموضوعاته.
نجحت تركيا من خلال موقفها المركب ومتعدد المسارات، في استيعاب الدرس القاسي من تجربة أنور باشا قبل حوالي قرن، عندما جرّته ألمانيا لمحورها في حرب مدمرة، وكان أنور باشا عمّقها بفقدان 80 ألف جندي في معركة التوغل في روسيا القيصرية
تورّطت تركيا في 1914 في الحرب العالمية الأولى، بسبب وهن قيادتها آنذاك، فجرّها أحد ضباطها من الاتحاد والترقي أنور باشا للانخراط الارتجالي في الحرب العالمية الأولى، بإيعاز من الألمان، للمشاركة في مواجهة بريطانيا وفرنسا.
تجد تركيا اليوم نفسها في سياقات مشابهة، ففضلا عن الاستهداف الواضح لمسيرة نهوضها، عبّرت عنه التدخلات الغربية بالانتخابات التركية الماضية ومحاولة التأثير في نتائجها، وأيضا الاستهداف الممنهج للصعود التركي والمحاولة الدائمة لإرباكه، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، لتمثل اختبارا واضحا لسياسات أنقرة، بحكم موقعها الجيوسياسي في هذه الحرب.
فقد كشفت الأحداث أن تركيا كانت أمام مشهد أعقد من مجرد نزاع روسي أوكراني، إنما روسي غربي، شحذت فيه كل الأسلحة، وحشدت فيه كل الجبهات العسكرية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية والاقتصادية، حتى وصف بعض الخبراء هذه الحرب بالحرب العالمية الثالثة. وجدت تركيا نفسها بين محورين، بين روسيا العدو الودود، والغرب الحليف التقليدي “اللدود”.
أدرك أردوغان تعقيدات المشهد والفخ الذي يمكن أن يقع فيه، بالتورط، انحيازا لطرف على حساب الآخر. تبنت تركيا مقاربة مركبة، تنحاز للشرعية الدولية إجمالا، ولا تتورّط في تأولاتها الغربية تفصيلا، مبقية على خطوط التواصل مع روسيا، واعية بحاجة طرفي الحرب لخط عودة. نجح أردوغان فعلا في تثبيت تركيا في قلب الدبلوماسية الدولية.
الغرب يحتاج تركيا حليفا ووسيطا، وروسيا تحتاجها، والمجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة يحتاجها. نجحت تركيا من خلال موقفها المركب ومتعدد المسارات، استيعاب الدرس القاسي من تجربة أنور باشا قبل حوالي قرن، عندما جرّته ألمانيا لمحورها في حرب مدمرة. وكان أنور باشا عمّقها بفقدان 80 ألف جندي في معركة التوغل في روسيا القيصرية.
فحتى عضوية تركيا في الحلف الأطلسي (الناتو)، لم تفرض عليها الانحياز للقوى الغربية المحاربة لروسيا، واختارت بدل ذلك نهجا استقلاليا في خياراتها الخارجية، القائمة على التوازن المستجيب للمصالح الوطنية.
تبدو الحرب الأوكرانية الروسية جزءا من مشهد دولي صاخب، يشتد فيه الصراع والتنافس من أجل توازنات دولية أكثر تحررا من الهيمنة الأميركية الغربية. وتدفع روسيا معاندة بهذا الاتجاه إلى جانب الصين وقوى دولية كبرى مثل الهند والبرازيل وباكستان، وحتى بعض الدول الإقليمية كالسعودية وإيران.
في هذا المشهد الصاخب تهب رياح كثيرة لصالح تركيا، وهي فيما يبدو التقطت هذه الفرصة التاريخية لتعزيز مكانتها الإستراتيجية، وفرضت نفسها لاعبا إقليميا ودوليا معتبرا، وهي لحظة تاريخية تتقاطع مع رغبة تركيا في العبور لحقبة المئوية الثانية للجمهورية، على أرضية رؤية “قرن تركيا”.
قرن جديد يبنى على مكتسبات قرن انقضى، ويتجاوز إعاقات وإخلالات تأسيسية، طالما كبلت الجمهورية الفتية على الانطلاق، وأربكت جهود النهوض والإقلاع.
خلال خطابه في 28 أكتوبر/الأول 2022، عرض أردوغان الملامح والأهداف التي تلخص رؤية “قرن تركيا”، وهي تقريبا 17 مبدأ، أوضح فيها إلى جانب الإصلاح الدستوري والقانوني، أن قرن تركيا هو قرن القيم، والعلم والتكنولوجيا، والاستدامة، والسلام، والأمن والقوة الاستقرار، وبناء أفق مستقبلي يقوم على روح المبادرة والاستباقية، يأخذ بعين الاعتبار التحولات الوطنية والعالمية.
وفي توضيحه لرؤية حزبه، قال أردوغان إنه في وقت يواجه فيه العالم تحديات مصيرية، يتطلع الحزب أن تكون تركيا أحد العشر الكبار في العالم في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والدبلوماسية.
أولا: الإصلاح الدستوري
هو ضرورة حيوية لتركيا الجديدة. دستور جديد يواكب التحولات التي طرأت في البلاد، ويمثل رافعة ومرجعية قانونية عليا لمنظومة الحكم الجديدة، القائمة على المدنية والنظام الجمهوري. ويعتبر هذا الإصلاح الدستوري، الخلاص النهائي للبلاد من مخلفات الانقلابات العسكرية، خاصة أن الدستور الراهن جاء عقب الانقلاب العسكري الذي وقع في 1980، واقترحت مسودته المؤسسة العسكرية، ليقع تبنيه في 1982.
يتطلع حزب العدالة والتنمية وشركاؤه إلى تأسيس حقبة جديدة في تاريخ تركيا، تحتاج إلى منظومة قانونية جديدة، أساسها دستور جديد يمثل تعاقدا وطنيا وعقدا اجتماعيا، يعبّر عن إرادة الأتراك، ويمثل رافعة لتطلعاتهم وأهدافهم في قرن جديد بترسانة قوانين جديدة مواكبة لهذه التطلعات ورافعة لها.
ثانيا: الإصلاح السياسي
رغم ما حققته مسيرة الـ100 عام في تاريخ الجمهورية من مكاسب معتبرة ومتدرجة، لا سيما أن السياق التاريخي الذي انبثقت منه كان شديد التعقيد، فإن الجمهورية بسمتها الكمالي، عاشت صعوبات كثيرة، جعلت مسارها خلال 100 عام يتأرجح بين النجاحات حينا والانتكاسات أحيانا.
فرضت حيثيات التأسيس على الجمهورية الوليدة تبني سياسة حذرة ومنكفئة وفي أحيان كثيرة الاكتفاء بموقع في الهامش الإقليمي والدولي. وقد عقّدت الانقلابات العسكرية مسيرة الجمهورية وأربكتها، حتى كادت الانقلابات تتحول إلى سمة من سمات الجمهورية في قرنها الأول، لولا الجهود التي تراكمت وتوّجها المشروع الإصلاحي الوطني الشامل الذي جاء به حزب العدالة والتنمية.
تبدو تركيا الجديدة اليوم أكثر ثقة في نظامها السياسي، في ظل إصلاحات سياسية راكمها العدالة والتنمية، وتحولت بمقتضاها الدولة إلى تجسيد لإرادة الأتراك إلى حد كبير. لقد كان فشل الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2016 بمثابة طي الصفحة الأخيرة في ثقافة الانقلابات العسكرية، وعززت التوجهات التي جاء بها العدالة والتنمية الحكم المدني، ثقافة سياسية ومؤسسات حكم.
المؤكد أن تركيا اليوم تحوّلت، نوعيا وكميا، وباتت محل اهتمام ومتابعة من العالم كله، وانتقلت باقتدار من الهامش إلى المركز. ويشعر التركي اليوم بفخر واعتزاز بانتمائه لبلد نحت تجربته في التحول بثقة وحكمة، افتقدتها الكثير من دول العالم، بما في ذلك دول الجوار.
تمضي تركيا قدما في تلمس وترسيخ المعالم والمرتكزات الأساسية، والملامح العامة، لنظام سياسي جديد يعزز الاستقرار السياسي ويرسّخ مؤسسات الدولة الديمقراطية.
ثالثا: الاقتدار الاقتصادي
انتزعت تركيا منذ سنوات مكانة بارزة ضمن مجموعة العشرين الكبار، وافتكت موقعا رياديا كقوة اقتصادية صاعدة، ولا يبدو أن بعض الصعوبات الطارئة ستربك مسارها ونهضتها. لم يكن هذا التحول الاقتصادي الكبير مجرد صخب شعبوي، ولا مشاريع استعراضية غير منتجة، وإنما عملية تمكين اقتصادي صلبة، راهنت على قطاعات حيوية، بمنظور إستراتيجي، عزز قوة تركيا ورسّخ مكانتها الإستراتيجية، وجدارتها الريادية.
باتت تركيا اليوم تبز دولا كبرى في مجال التصنيع العسكري والقطاع السياحي والطبي والثقافي الفني وحتى والإنساني الإغاثي. تطمح رؤية “قرن تركيا” النهضوية للمئوية الجديدة في أن تأخذ تركيا موقعها ضمن أقوى وأكبر 10 اقتصادات في العالم.
تبدو الإستراتيجية الاستقلالية التي ترسّخ سياسة خارجية متوازنة طريقا ممهدا لهذا الطموح الاقتصادي. تركيا اليوم فضلا عن عضويتها في حلف الأطلسي وعلاقتها الإستراتيجية مع الغرب، تقيم شراكة اقتصادية إستراتيجية مع الصين، وقد انضمت لطريق الحرير الجديد في 2015، وترتبط بعلاقات تعاون اقتصادي حيوي مع روسيا في مجالات مهمة بينها الطاقة والسياحة.
لم يكن مفاجئا في سياق سياسة الانفتاح عودة تركيا لإحياء مسار العضوية في الاتحاد الأوروبي، وحتى إن بدا معقدا ولا يحقق كل أهدافه، فسينتهي بتحقيق جل أهدافه، وتكون تركيا أهم شريك متميز للاتحاد الأوروبي. تعزز تركيا شراكات اقتصادية متميزة مع الفضاء الآسيوي والأفريقي، كما تتجه بخطى واضحة لتصفير العلاقات مع محيطها الإقليمي، منعشة علاقات متميزة مع الفضاء العربي بصفة عامة والخليجي بصفة خاصة.
رابعا: الاقتدار العسكري
شهدت تركيا خلال السنوات الأخيرة نهضة لافتة في التصنيع العسكري، عزز قدراتها الدفاعية، وأعطى دفعا قويا لاقتصاد البلاد، لا سيما مع ما اكتسبته بعض الصناعات العسكرية من سمعة دولية معتبرة، على غرار الطائرات المسيرة. فقد أحدثت طائرة “بيرقدار آقنجي”، تحولا نوعيا في مكانة تركيا ووزنها الإستراتيجي. ولعبت المسيرات التركية دورا في حسم المعارك أو القيام بعمليات ردع في العديد من الدول التي اقتنت هذه المسيرات لا سيما ليبيا وأوكرانيا.
ساهمت هذه الطائرات فضلا عن دورها العسكري، في تعزيز دبلوماسية تركيا الخارجية. وتغطي الصناعات العسكرية المحلية اليوم أكثر من 70% من الاحتياجات العسكرية للبلاد. وفقا للمسار الحالي فإن تركيا تتجه لتعزيز قطاع التصنيع العسكري، الذي كلما تقدم وتتطور عزز قوة البلاد واقتدارها، وسمح لها بترسيخ سياسات استقلالية متوازنة، لا تخضع لابتزاز ولا تُفرض عليها تبعية.
خامسا: الدبلوماسية النشطة والإستراتيجية الاستقلالية
تتسم الدبلوماسية التركية بأنها أكثر الدبلوماسيات حيوية وديناميكية. ويعطي لهذه الدبلوماسية هذا الزخم اندراجها ضمن رؤية نهوض شاملة، فهي دبلوماسية تكتشف طوال الوقت كل الفرص والإمكانات، وتقتحم آفاقا جديدة، وتجترح مسارات غير مكتشفة.
تعطي هذه الحيوية الدبلوماسية لتركيا فرصا في الاكتشاف والمراجعة والتعديل والاقتحام. ويجمع الكثير من الخبراء في العلاقات الدولية أن تركيا تختط لنفسها اليوم إستراتيجية دبلوماسية في سياستها الخارجية، غير تقليدية وذات خصوصية كبيرة، قوامها الاستقلال الإستراتيجي المتوازن.
بقدر ما تبدو تركيا وفية لتحالفات شركائها التقليديين، لا سيما الولايات المتحدة والغرب، بقدر ما تعرف دبلوماسيتها زخما في اقتحام مسارات جديدة، عبر الانفتاح على الصين من خلال الانضمام لمبادرة طريق الحرير الجديد منذ 1915، الذي يفتح لتركيا أبوب التجارة مع عشرات الدول، لا سيما أن الدول التي انضمت إليها تتجاوز أكثر من 123 دولة. كما عززت المبادرة فرص تركيا في تفعيل “الممر الأوسط”، الذي يمثل الممر التجاري الدولي الرابط بين الشرق والغرب.
يشار إلى أن النقل والتجارة من آسيا إلى أوروبا يجريان عبر 3 ممرات رئيسية، “الشمالي” الذي يمر بروسيا، و”الجنوبي” الذي يمر بإيران، و”الأوسط” الذي يمر من الأراضي التركية.
تستدبر تركيا قرنا كانت بدايته صاخبة جدا، قامت فيه الجمهورية كخلاصة قاسية، لنهاية قاسية، من رحم بقايا تاريخ مجيد حافل بالعظمة والجلال والقوة، وتستقبل قرنا جديدا، تتطلع أن تكون المبادئ الأساسية لرؤية “قرن تركيا” أبرز ملامحه، القيم والاستدامة والسلام، والإنتاج والعلم، والنجاح، والكفاءة، والتنمية، والمستقبل، والاستقرار، والرخاء، والرأفة، والاتصال، والقوة.