تركيا المُتغيّرة بين استحقاقيْن انتخابيين
كتب محمود علوش في العربي الجديد.
عندما يتوجّه الناخبون الأتراك إلى صناديق الاقتراع غدا الأحد 31 مارس/ آذار لاختيار المجالس المحلية، سيكون قد مضى على الانتخابات العامة عشرة أشهر. ورغم الفترة القصيرة بين الاستحقاقين، إلا أن البيئة السياسية التي تُجرى فيها الانتخابات المحلية مُختلفة جذرياً عن البيئة التي سبقت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو/ أيار الماضي، فالرئيس رجب طيب أردوغان، الذي خاض انتخابات مايو للدفاع عن حكمه من أكبر تهديد واجهه على الإطلاق في مسيرته السياسية، يتطلع حالياً إلى تعزيز زعامته وتوجيه ضربة قاصمة للمعارضة من خلال حرمانها مما تبقى لها من القوة التي اكتسبتها في السياسة الداخلية منذ 2019 عندما انتزعت السيطرة على زعامة عدة مدن كبرى من حزب العدالة والتنمية (الحاكم). أما المعارضة، التي خاضت انتخابات مايو (2023) في جبهة موحّدة للمرّة الأولى من أجل إنهاء عقدين من حكم أردوغان، فإنها أصبحت منقسمة على نفسها، وأقصى ما تتطلع إليه الحفاظ على ما تبقّى لها من تأثير. ويعكس هذا الاختلاف في البيئة السياسية بين الاستحقاقين، في جانب أهمية الانتخابات المحلية، التي ستُحدّد المنحى الذي ستسلكه السياسة الداخلية في السنوات الأربع المقبلة، ويُعطي في جانب آخر صورة عن إحدى نقاط القوة الرئيسية، التي مكّنت أردوغان من الحفاظ على زعامته أكثر من عقدين، رغم الظروف الاقتصادية السيئة التي تمرّ بها البلاد في السنوات الأخيرة، وتتمثل في المعارضة الضعيفة، التي لم تستطيع تطوير عدائها المشترك لأردوغان إلى مشروع سياسي متكامل قادر على إحداث تغيير سياسي. وحتى العداء المشترك لأردوغان، الذي نقل المعارضة منذ عام 2019 من قوة مُنعدمة التأثير إلى قوة فاعلة، لم يستطع الصمود أمام حقيقة الهويات الأيديولوجية المُتعارضة لأحزابها الرئيسية. إن تحوّل العلاقة بين أكبر حزبين معارضين، وهما “الشعب الجمهوري” و”الجيد”، والتي تطورت بعد 2019 إلى تحالف “الأمة” الذي ضمّ أربعة أحزاب معارضة أخرى، وحظي بدعم الحزب الكردي الرئيسي في الانتخابات الرئاسية، من الوحدة إلى العداء، كان انعكاساً واضحاً لانفجار صراع الهويات. مع الأخذ بالاعتبار البيئة السياسية المستقطبة التي صنعها أردوغان، والتي قوّضت من قدرة المعارضة على التوفيق بين هوياتها المختلفة، إلّا أن المأزق الذي واجه المعارضة منذ اتحادها وصولاً إلى انهيار تحالفها اليوم، كان من صُنع نفسها بدرجة أساسية.
يتطلع أردوغان إلى تعزيز زعامته وتوجيه ضربة قاصمة للمعارضة بحرمانها مما تبقى لها من القوة التي اكتسبتها في السياسة الداخلية منذ 2019
حقيقة أن حزب الشعب الجمهوري فشل في إدارة العلاقات المعقّدة مع أحزاب المعارضة الأخرى بطريقة صحيحة، وتعامل معها أنّها مُجرد وسيلة لتعظيم دوره في السياسة الداخلية، أدّت، في نهاية المطاف، إلى تشكيل الوضع الراهن لحالة المعارضة. وحتى في الوقت الذي يبدو من الصعب على أحزاب المعارضة الأخرى، التي اختارت خوض الانتخابات المحلية بمُفردها مع استثناء التعاون بين “الشعب الجمهوري” و”المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردي في بعض المدن، أن تُحقق مكاسب في هذه الانتخابات، إلّآ أن انقسامها قد يكون سبباً مباشراً في تمكين التحالف الحاكم من استعادة السيطرة على البلديات الكبرى أو الأكثر أهمية فيها مثل إسطنبول. ستكون المعركة الانتخابية في إسطنبول على وجه الخصوص حاسمة، ليس فقط على صعيد مستقبل الزعامة عليها، بل أيضاَ على صعيد إعادة تصميم السياسة الداخلية على نطاق أوسع. وإذا تمكّن التحالف الحاكم من استعادة إسطنبول، فإن ذلك سيُحدِث آثاراً كبيرة في السياسة الداخلية وفي حالة المعارضة. بالنسبة لأكرم إمام أوغلو مرشّح حزب الشعب الجمهوري لرئاسة بلدية إسطنبول، فإن نتائج الانتخابات ستُحدّد مستقبله السياسي كزعيم معارض جديد ينظر إلى الاحتفاظ بزعامته اسطنبول للمرّة الثانية على أنه بوابة للوصول إلى رئاسة البلاد في المستقبل على غرار حالة أردوغان، الذي صنع زعامته الوطنية بدءاً من رئاسته بلدية إسطنبول في 1994.
ستعمل آثار المنافسة على زعامة إسطنبول على إعادة تصميم السياسة الداخلية على مستوى تحديد وضع المعارضة في هذا التصميم
ستؤدّي هزيمةٌ محتملةٌ لإمام أوغلو إلى إعادة تشكيل الزعامة داخل “الشعب الجمهوري” بعد يوم غد الأحد، 11 مارس/ آذار. تتمثل المعضلات الثلاث التي يواجهها الحزب في هذه الانتخابات في الصراع الداخلي على القيادة، وانهيار ائتلاف المعارضة، وآثار هزيمة انتخابات مايو، ما يجعله أمام قنبلة موقوتة مُهيئة للانفجار في حال فقدانه السيطرة على المدن الكبرى، سيما إسطنبول كونها المدينة الأكثر أهمية في ديناميكيات السياسة الداخلية، فهي المدينة الأكبر في تركيا من حيث عدد السكان (تُشكّل إجمالي 18% من عدد سكان تركيا وهي العاصمة الاقتصادية). لذلك، ستعمل آثار المنافسة على زعامة إسطنبول على إعادة تصميم السياسة الداخلية على مستوى تحديد وضع المعارضة في هذا التصميم، وعلى مستوى مستقبل زعامة أردوغان. مع أن الأخير سبق أن أعلن أن الانتخابات الحالية هي الأخيرة التي سيخوضها، في إشارة إلى أنه لا يعتزم الترشّح للرئاسة بعد انتهاء ولايته الحالية في عام 2028 بسبب القيود الدستورية، إلآّ أن قدرته على انتزاع إسطنبول من المعارضة ستُحدّد ما إذا كان بمقدوره إيجاد بيئة سياسية جديدة تُساعده في إطالة أمد زعامته.
قادة بارزون في الحزب الحاكم لمحوا أخيراً إلى احتمال إجراء انتخابات عامّة مبكّرة من أجل إفساح المجال أمام أردوغان للترشّح للرئاسة مرّة أخرى
تبدو أحزاب المعارضة الأخرى أقلّ عُرضة لتداعيات هزيمة محتملة مقارنة بحزب “الشعب الجمهوري”، لكنها لن تسلم بأي حال من ارتداداتها. عندما قرّر حزب “الجيد” الانفصال عن “الشعب الجمهوري” من أجل استعادته هويته حزباً قومياً مُعارضاً يطمح إلى التحوّل إلى قوة معارضة أساسية كبديل عن الثنائية الحزبية التقليدية المُتمثلة بحزبي “العدالة والتنمية” و”الشعب الجمهوري”، فإنه وضع رهاناً من أجل تحقيق هذا الهدف، ويتمثل في قدرته على الحفاظ على نسبة التأييد الشعبي له من دون الحاجة إلى الاعتماد على “الشعب الجمهوري”. لكن الإخفاق ينطوي على مخاطر كبيرة تُشكّل تهديداً وجودياً له. وسيكون الحزب عُرضةً لمزيد من الاستنزاف على مستوى القادة والحاضنة الشعبية في حال فشلت المخاطرة الكبيرة لزعيمته ميرال أكشنار. وفي حال نجاح حزب الشعب الجمهوري في تحقيق فوز في هذه الانتخابات، سيكون قادراً على استقطاب مزيد من الشخصيات والأصوات القومية المعارضة له. كما أن حزب الحركة القومية حليف أردوغان سيسعى إلى استعادة جزءٍ من القوميين المعارضين في حال انهيار الحزب “الجيد” وستتعاظم فرصه لاستقطاب الجزء الأكبر منهم في حال هزيمة “الشعب الجمهوري”.
ستعمل هذه الآثار المختلفة المحتملة لنتائج الانتخابات المحلية جميعها على إعادة تصميم السياسة الداخلية في الولاية الثالثة لأردوغان، والتي يُفترض أنها الأخيرة. لكنّ تصميماً جديداً تفقد فيه المعارضة ما تبقّى لها من القوة السياسية، سيُساعد أردوغان في محاولة إطالة أمد رئاسته إلى ما بعد عام 2028 إذا ما رغب في ذلك، خصوصاً أن قادة بارزين في الحزب الحاكم لمّحوا أخيراً إلى احتمال إجراء انتخاباتٍ عامّةٍ مبكّرةٍ من أجل إفساح المجال أمام أردوغان للترشّح للرئاسة مرّة أخرى.