اقتصاد ومال

ترامب يضع الغاز الطبيعي المسال الأميركي في مأزق

بينما دشن الرئيس الأميركي دونالد ترامب محادثات سلام لإنهاء الحرب الأوكرانية في الرياض، على أمل كسب روسيا وإضعاف التحالف القائم بين موسكو وبكين، يرى خبراء أن هذه المحادثات في حال نجاحها قد تضع صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركية في أزمة حقيقية وتهدد مستقبل الاستثمار في مشاريع الطاقة الأميركية، وذلك بسبب احتمال عودة غاز الأنابيب الروسي إلى أوروبا وتغيير ديناميكيات السوق بشكل قد يضر بمصالح شركات الغاز الطبيعي الأميركية التي استبشرت بتصريحات ترامب الخاصة بالضغط على أوروبا وأوكرانيا وغيرها لزيادة مشترياتها من الغاز المسال الأميركي على حساب الغاز الروسي.

وكانت شركات الغاز الأميركية قد وضعت خطة لمضاعفة قدرة تصدير الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة بحلول عام 2028، وفق تقرير نشره معهد “أتلانتك كاونسل” يوم 23 يناير الماضي. وهذا يعني أن هنالك مليارات الدولارات رصدت لبناء المنشآت الخاصة بتسييل الغاز في أميركا.

ويرى محللون أنه إذا أدت خطة ترامب للسلام إلى تطبيع العلاقات بين واشنطن وروسيا واستعادة شركة غاز بروم الروسية العملاقة قدراتها في مجال إمدادات الغاز لأوروبا، فقد يتطلب ذلك إعادة تقييم سياسة الطاقة الأميركية في ما يتعلق بالعقوبات واستراتيجيات التصدير.

وقد تحتاج الولايات المتحدة إلى تنفيذ سياسات أو حوافز جديدة للحفاظ على حصتها في سوق الغاز الأوروبي أمام المنافسة الروسية المتجددة، وذلك بسبب حاجة أوروبا إلى طاقة رخيصة مقارنة بالأسعار المرتفعة للغاز المسال الأميركي. وبالتالي قد تواجه شركات الغاز الأميركي الخسائر المحتملة الناجمة عن انخفاض الطلب على الغاز الطبيعي المسال الأميركي، وذلك وفق تقرير بنشرة “سيتي أيه أم” الصادرة في حيّ المال البريطاني بلندن نهاية يناير الماضي.

وتقول النشرة: “هناك نقاش جارٍ في بروكسل حول ما إذا كان ينبغي إعادة خطوط أنابيب الغاز الروسية إلى أوروبا كجزء من أي تسوية حرب قد يُتَّفَق عليها مع موسكو”. ويؤكد أنصار هذه الخطوة أن عودة غاز الأنابيب الروسي يمكن أن تساعد في تعزيز القدرة التنافسية للصناعات الأوروبية التي عانت خلال سنوات الحرب من ارتفاع كلف الإنتاج بسبب أسعار الطاقة المرتفعة.

ويتابع التقرير: “غالباً ما تكون أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا أعلى بثلاث إلى أربع مرات من أسعارها في الولايات المتحدة، لذا فإن الغاز الروسي الأرخص يمكن أن يكون ميزة اقتصادية للكتلة الأوروبية التي تعاني من زيادات في كلفة الطاقة منذ اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022. كذلك فإنه في حال نجاح محادثات السلام، فإن سلاح الضغط الذي يستخدمه ترامب لاحتكار سوق الغاز الأوروبي سيسقط ويجد نفسه في أزمة مع شركات الطاقة الأميركية التي استثمرت في صناعة الغاز المسال على أمل التصدير إلى أوروبا وغيرها بأسعار مرتفعة.

ويلاحظ أن هنالك فارقاً سعرياً كبيراً بين غاز الأنابيب الروسي والغاز الطبيعي المسال الأميركي. في هذا الإطار قال الرئيس التنفيذي لشركة “أو أم في” النمساوية للطاقة، راينر سيل، في مؤتمر بفيينا في 2 أغسطس/ آب الماضي وفق وكالة تاس الروسية، إن غاز خط الأنابيب الروسي عموماً أرخص مرتين للمستهلكين الأوروبيين مقارنة بأسعار الغاز الطبيعي المسال الأميركي. وأضاف: “أعتقد أن الفرق يبلغ حوالى 50% بين الغاز الطبيعي المسال الأميركي والغاز الروسي”.

في ذات الصدد، قال وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك للصحافيين منتصف هذا الأسبوع إن الغاز الطبيعي المسال القادم من الولايات المتحدة إلى أوروبا أغلى بنسبة تراوح من 30 إلى 40 بالمئة، على الأقل من خط أنابيب الغاز القادم من روسيا. وبلغ متوسط السعر الشهري للغاز الطبيعي في الولايات المتحدة 3.02 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في ديسمبر الماضي، وعلى النقيض من ذلك، كانت أسعار الغاز في أوروبا أغلى بثلاثة أضعاف.

ورغم الشكوك بشأن ما إذا كان من المنطقي بالنسبة إلى ترامب أن يدفع في المحادثات المقبلة مع بوتين بشأن واردات الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي في أي اتفاق سلام بين موسكو وكييف، لأنه يتعارض مع مصالح شركات تصدير الغاز الطبيعي المسال الأميركية، ولكن أوروبا قد تضغط في هذا الاتجاه، وكذلك موسكو.

وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال في أوروبا، فإن السماح بعودة المزيد من الغاز الروسي من شأنه أن يضر بحصة الولايات المتحدة في السوق. ولكن لا يمكن لأوروبا أن تعتمد على عقلانية ترامب، أو غير ذلك، في هذه القضية وغيرها من المسائل الرئيسية المتعلقة بأوكرانيا.

ولهذا السبب تطالب أوروبا بمقعد على طاولة المفاوضات مع روسيا، وقد يتعين على زعماء الكتلة الآن أن يقرروا على وجه السرعة كيفية محاولة إجبار ترامب على ذلك. ويلاحظ أن أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا بدأت تتراجع حتى قبل بدء المحادثات.

ويقول تحليل بنشرة “أس أند بي غلوبال” في 13 فبراير الجاري إن أسعار الغاز الأوروبية انخفضت في تعاملات منتصف الشهر بسبب تأثر معنويات المضاربين إلى حد كبير بتقارير عن خطة سلام أميركية روسية مزمعة بشأن أوكرانيا بعد أن أجرى الرئيسان، الأميركي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين، محادثات “مطولة” في 12 فبراير. ووفق التحليل، انخفض سعر الغاز في بورصة الغاز الهولندية “تي تي أف” إلى أقل من 51 يورو/ ميغاوات في الساعة، وفقاً لبيانات ICE. وكانت شركة Platts قد توقعت أن يبلغ سعر الغاز عند 55.41 يورو/ ميغاوات في الساعة، بعد أن وصلت إلى أعلى مستوى خلال عامين عند 58.13 يورو/ ميغاوات في الساعة في 10 فبراير.

ووفق النشرة المتخصصة، رأى محللون أن المعنويات الهبوطية لأسعار الغاز كانت مدفوعة بثلاثة عوامل رئيسية، وهي قرار ترامب برفع الإيقاف المؤقت الذي فرضته إدارة بايدن على تصاريح وزارة الطاقة الجديدة لصادرات الغاز الطبيعي المسال، وفرض الصين رسوماً جمركية على واردات الطاقة الأميركية، وانطلاق محادثات السلام المقترحة لإنهاء الحرب الأوكرانية.

ويرى مصرف غولدمان ساكس الاستثماري الأميركي في تحليل في 18 فبراير الجاري أن عودة غاز الأنابيب إلى أوروبا سيخفض أسعار الغاز الطبيعي الأوروبي بمعدلات تراوح بين 15% و 50%. وتراجع أسعار الغاز الطبيعي بهذا المستوى سيساهم في زيادة تنافسية الصناعات الأوروبية التي تواجه تهديدات ترامب بالجمارك المرتفعة أو إجبارها على الهجرة والتصنيع في أميركا.

ويرى محللون أن مثل هذا التراجع الكبير قد يؤدي إلى استعادة القدرة التنافسية للصناعات الأوروبية من حيث التكلفة إلى مستويات ما قبل أزمة الطاقة عام 2021، ما يمكّن أوروبا من التنافس أفضل مع ضغوط جمارك ترامب والصادرات الصينية، وفقاً لمذكرة بحثية بتاريخ 13 فبراير من محللين في بنك MUFG قالوا: “نحن مقتنعون بأن هذا سيسبب ضغطاً هبوطياً كبيراً على أسعار الغاز في البورصة الهولندية، وربما إلى مستوى 20 يورو/ ميغاوات في الساعة، عام 2026”.

ويرجح محللون عودة الغاز الروسي إلى الدول الأوروبية لثلاثة عوامل رئيسية، وهي انخفاض الأسعار مقارنة بالغاز الطبيعي المسال الأميركي. وهذا من شأنه أن يقلل من الميزة التنافسية التي يتمتع بها المصدرون الأميركيون حالياً، خصوصاً أن الشحنات الأميركية غالباً ما تكون أكثر تكلفة بسبب تكاليف النقل والعوامل اللوجستية الأخرى. أما العامل الثاني، فهو عدم موثوقية سياسات ترامب، إذ إنه متقلب ويتعامل بعقلية التاجر المضارب وليس بعقلية السياسي الذي يرسم استراتيجيات بعيدة المدى مع شركاء التجارة وحلفاء السياسة. والعامل الثالث وجود البنية التحتية الخاصة بشبكة أنابيب الغاز الروسي الجاهزة للاستخدام، مقارنة بكلف منشآت استقبال الغاز المسال الأميركي وتسييله.

ووفق بيانات معهد بروكغنز الأميركي قبل الحرب الأوكرانية، كان أكثر من 40% من الغاز الطبيعي الذي تستورده أوروبا يأتي من روسيا، المورد الأكبر لها، ويُسلَّم عبر أربعة خطوط أنابيب رئيسية. واعتمدت بعض الدول الأوروبية على روسيا في أكثر من 80% من إمداداتها من الغاز، بما في ذلك النمسا ولاتفيا. لكن ألمانيا كانت إلى حد بعيد أكبر مستهلك للغاز الروسي من حيث الحجم، حيث استوردت ما يقرب من ضعف حجم استيراد إيطاليا، ثاني أكبر مستهلك للغاز.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى