ترامب ودبلوماسية القوة

كتب صلاح الغول, في الخليج:
ثمة مذهب جديد آخذ بالتبلور في السياسة الخارجية الأمريكية، يمكن أنْ نطلق عليه مذهب ترامب، وهو دبلوماسية القوة. وتجلّى هذا المذهب، أكثر ما تجلى، في الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران (13-24 يونيو 2025). فبعد الدعم الأمريكي غير المباشر والمباشر للهجوم الإسرائيلي على إيران، أطلق الرئيس ترامب دبلوماسية مكثفة لوقف إطلاق النار. فبعد أنّ زف للأمريكيين ولإسرائيل وغيرهم بُشرى نجاح «عملية مطرقة منتصف الليل»، على ثلاثة مواقع نووية إيرانية (فوردو ونطنز وأصفهان)، في 22 يونيو/حزيران المنصرم، في تدمير القدرات النووية الإيرانية، دعا القادة الإيرانيين إلى التفاوض لإبرام اتفاق نووي جديد، يحل محل خطة العمل المشتركة الشاملة لعام 2015، وشجعهم على الحوار وصنع السلام!
وبعد أن قبل الطرفان المبادرة الأمريكية بوقف إطلاق النار، في 24 يونيو/حزيران، مارس الضغوط عليهما، ولاسيما إسرائيل، للالتزام بوقف إطلاق النار. فقد اضطر ترامب للاتصال مباشرة برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، محذراً إياه من عدم إسقاط المزيد من القنابل على طهران. وتصف «جيروزاليم بوست» بأنّ المحادثة كانت «صعبة»، وذلك أن ترامب اعتبر الالتزام بوقف إطلاق النار مسألة شخصية «وأنه لن يسمح لأحد بتقويض إنجازه». ووفقاً ل«واشنطن بوست»، أرسلت الإدارة الأمريكية تحذيراً إلى إيران عبر وسطاء قطريين، جاء فيه: «كفى هراء.. لا مزيد من الهجمات».
وهكذا يتلخص مذهب دبلوماسية القوة، بنسخته الترامبية، في اضرب بقوة (بالقاذفات الاستراتيجية بي 2 وصواريخ توماهوك) وبدقة (أهم منشآت إيران النووية)، ثم اجلس للتفاوض مع خصمك من موقع قوة.
وبالمقارنة بخبرة الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، لم يحتج ترامب في تعامله الدبلوماسي القسري مع إيران إلى حلفائه الأوروبيين، أو إلى قرارات أممية، ولم يدع إلى تشكيل ائتلاف دولي للضغط على طهران، ولم يخطط لتغيير نظام الحكم في إيران.
بعبارة أخرى، تشير «دبلوماسية القوة» إلى مبدأ أنّ القوة هي التي تصنع السلام. وينهل هذا المذهب مضمونه من رؤية المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، وهي المدرسة التي تتضمن مجموعة من الدارسين المرموقين، عاش أو يعيش معظمهم في الولايات المتحدة. ولعلنا نتذكر أنّ مؤسس هذه المدرسة، هانز مورجانثاو، اختار لكتابه «السياسة بين الأمم»، وهو إنجيل الواقعيين، عنواناً فرعياً يقول: «الصراع من أجل القوة والسلام».
وتؤمن المدرسة الواقعية أنّ المبادئ أو المثل الأخلاقية والمعيارية (القانون الدولي والمواثيق والمعاهدات الدولية) عموماً لا تحكم العلاقات بين الدول، وإنما القوة هي التي تحكم السياسة بين الأمم، فالعلاقات الدولية من وجهة نظر الواقعيين هي صراع أبدي من أجل القوة، وعلى رأسها القوة العسكرية. ويرى الواقعيون أن التفاوض لا يكون إلا من منطقة نفوذ لضغط الطرف الآخر، ومن ثم الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات منه!
وقد أبانت عمليتا «الأسد الصاعد» و«مطرقة منتصف الليل» عن عدم تقدير إسرائيلي-أمريكي للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وانسحب ذلك السلوك على سائر الدول الغربية، التي لم تُدن الهجمات الإسرائيلية والأمريكية على إيران، بل وأيدتها بدعوى مكررة ومحفوظة «حق في الدفاع عن النفس». وكما بينّا في مقال سابق على صفحات الخليج، فإنّ الرواية الإسرائيلية، والمواقف الأوروبية المتماهية معها، تتضمن تناقضاً أساسياً، يتعلق بالتناقض بين فكرة الحرب الاستباقية وحق الدفاع الشرعي عن النفس الذي يشترط وجود تهديد وشيك Imminent Threat.
والحرب أو الضربات الاستباقية لا يسبقها، بالتعريف، وجود أية حالة من حالات التهديد الحال. وفي شأن الهجوم الإسرائيلي على إيران، لم يكن هناك تهديد حال من جانب إيران لإسرائيل، فالأولى لم تحشد قواتها أو تعلن التعبئة العامة لمهاجمة الثانية، بل كل الظروف كانت تسير في اتجاه تسوية مشكلة الملف النووي الإيراني عن طريق المفاوضات التي كانت مجدولة جولتها السادسة في 15 يونيو/حزيران المنصرم، وفقاً للتصريحات المتفائلة للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، نفسه. ثم إن إيران، وبرغم التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي أشار إلى تسريع إيران وتيرة تخصيب اليورانيوم ومواصلتها رفض الامتثال لشروط الوكالة للرقابة على برنامجها، لا تمتلك قدرات عسكرية نووية، وإنما إسرائيل هي التي تحوزها. كما أثبتت المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية عجز الشرعية الدولية المتمثلة بالأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيرهما عن ردع إسرائيل. بل إنّ مجلس الأمن الدولي عجز عن مجرد إصدار بيان يدين الهجوم الإسرائيلي على إيران.
والخلاصة أنّ دبلوماسية القوة هي مذهب ترامب في السياسة الدولية، تُضاف إلى المذاهب الأخرى التي تبناها أسلافه. ولعلنا نذكر مذهب الاحتواء (1947) لهاري ترومان، الذي كان وراء اندلاع الحرب الباردة لنصف عقدٍ من الزمان، ومذهب داويت أيزنهاور الأكثر رعباً، وهو الرد النووي الشامل (1957) على أي محاولة سوفييتية للتدخل في أقاليم الولايات المتحدة ودول حلف الناتو ومناطق نفوذهما. ولكن جاء رونالد ريجان بمذهب مخالف في الثمانينات، وهو الحرب بالوكالة (الأموال والاستخبارات) لدعم الحركات المناهضة للشيوعية سراً.
وفي تسعينات القرن المنصرم، صك جورج هربرت ووكر بوش مذهبه عن التدخل المحدود ثم الانسحاب، ليخالفه نجله (جورج بوش) الذي شايع مذهب الحرب الاستباقية Pre-emptive war لتغيير النظام. ومن بعده، ناصر بارك أوباما التدخل بأسلوب جديد، وهو القيادة من الخلف.