رأي

تداعيات الطوفان وإعادة تموضع القضية.

كتب أحمد غلوم بن علي في صحيفة السياسة.

الوثائق الأميركية السرية التي كشفت عن حرب أكتوبر قبل خمسين عاما بالضبط من هذا الشهر، أي في عام 1973، أشارت إلى بعض النتائج المشابهة لنتائج “طوفان الأقصى” الذي بدأ في السابع من أكتوبر.
أبرزها الفشل الاستخباراتي للكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية، وهو الأمر الذي دفع مسؤول الاستخبارات بالخارجية الأميركية راي كلاين الى القول: “كانت الصعوبة التي واجهناها جزئيا أننا تعرضنا لغسيل دماغ من الإسرائيليين الذين غسلوا أدمغة أنفسهم”.
لهذا أحس الأميركيون أن من الممكن أن يخسروا أمن الطاقة والحضور الجيوسياسي، وتبعات حرب مفتوحة بسبب الغباء الإسرائيلي، وهو ما يحدث اليوم تماما.
تم تحذير وتنبيه الكيان الصهيوني في حرب 1973 قبل هجوم مصر وسورية عليها كما حدث قبيل “طوفان الأقصى”، كما أن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي، آنذاك، قلل من التداعيات بعد الحرب، وهو ما كان خطأ ستراتيجي وفق الوثائق السرية التي تم نشرها لاحقا، وهو بالفعل ما يحدث اليوم.
هذه دلالة على أن الصورة النمطية للغرب وأميركا في الفكر العربي ليست إلا وهم، فالذي يحكم قرارات وسلوك الولايات المتحدة ليست مطابخ مراكز الدراسات والأبحاث، كما يوهم لنا منذ الصغر، إنما هي حسابات الربح والخسارة المتأصلة في هذا الفكر الغربي، وتراجع ترامب عن تصريحاته بشأن إسرائيل شاهد على ذلك، لأنه ببساطة يفقده ورقة رابحة في الإنتخابات الأميركية المقبلة، إن سمح له القضاء بالترشح.
يمكن مراجعة بسيطة للكتابات الغربية في هذه الأيام ليكتشف بوضوح كلفة الإجتياح الإسرائيلي البري على غزة، وتداعياته على المنطقة، وعلى حضورها السياسي والجيوسياسي في المنطقة، وتأثيره على الكيان الصهيوني، إن كان لا يزال موجودا في الخارطة.
من أمثلة ذلك عناوين بعض المقالات والافتتاحية لمجلة ذات وزن ستراتيجي في الفكر السياسي الغربي مثل “فورين أفيرز” في العدد الأخير، وإليكم بعض العناوين “إن غزو غزة سيكون بمثابة كارثة لإسرائيل” لمارك لينش، “ما الذي ستواجهه إسرائيل في غزة؟: التكاليف الباهظة لسحق “حماس”، بقلم دانيال بايمان وسيث جي جونز، “عصر إلهاء القوى العظمى” بقلم مايكل كيماج وهانا نوت، “حماس مزقت العالم العربي: يجب على أميركا أن تساعد في منع نشوب صراع أوسع نطاقا – في الضفة الغربية وخارجها”، بقلم غيث العمري.
لندرك أهمية “طوفان الأقصى”، يمكننا ببساطة مراقبة الهجمة الغربية والأوروبية الإعلامية والأمنية الشرسة على “حماس”، ومنع أي نصرة في شكل تظاهرة، أو لباس، أو حتى شعار على وسائل التواصل الإجتماعي.
فالجنون المسعور في الإعلام الغربي والأوروبي، وضرب قيم الحرية الفردية والرأي، الذي يلحن بها كل تصريح غربي، ينم عن أن الحدث بالفعل زلزال، لكن لماذا زلزال؟
منذ أن أعلن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، ضمن برنامجه الانتخابي في عام 2008، تخفيض عدد الجنود الأميركيين في المنطقة، ثم تبع نجاحه تصريحات ودراسات عن ضرورة إنسحاب أميركا من الشرق الأوسط، وإعادة البوصلة إلى آسيا الوسطى وما إلى ذلك، كان أغلب ذلك يعود إلى ثقة الولايات المتحدة بالوكيل الإقليمي، أي الكيان الصهيوني.
ثم إزدادت الثقة بعد تطبيع بعض دول المنطقة مع هذا الكيان في عهد دونالد ترامب، لتتفرغ الى ترميم مكانتها في النظام الدولي أحادي القطبية، وذلك عبر تحييد النفوذ الجيوسياسي لروسيا في شقها الشرق أوروبي، فكانت حرب أوكرانيا، ثم لتحجيم التنين الصيني عبر مناوشات وتحرشات في شبه الجزيرة الكورية.
بيد أن الانهيار الاستخباراتي والعسكري لإسرائيل الذي أحدثه “طوفان الأقصى” كشف عن حقيقة أن هذا الكيان المزروع في المنطقة لا يعدو كونه ماردا من ورق، فصور جنود الاحتلال الإسرائيلي مسحولين ومنهارين من الصدمة، رسخت، وسترسخ في الذاكرة العربية لأجيال، ومهما تجزر إسرائيل في المدنيين مع غياب إعلام الحرية الغربية والاوروبية فلن ترجع صورتها، أو تغطي فشلها، وحجمها الواقعي.
إذا ما أعطت الولايات المتحدة الأميركية الضوء الأخضر لإسرائيل بالاجتياح البري، فإن ذلك سيكون له تداعيات خطيرة إذا ما توسع الأطراف المشاركون في الحرب، عندها يمكن أن يكون للانتقام الروسي من طريق لاستنزاف أميركا، عسكريا واقتصاديا، عبر دخولها بشكل غير مباشر على سبيل المثال.
في كل الأحوال، سواء تم اجتياح الإبادة أو لم يتم، فإن القضية العربية الفلسطينية تمت إعادة تموضعها من جديد في المنطقة، وباختصار ما قبل الطوفان ليس كما بعده.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى