رأي

تحدّيات وبديل غياب مشروع وطني فلسطيني

كتب أسامة أبو أرشيد في “العربي الجديد”: ثمَّة هاجس يساور كثيرين من الناشطين الفلسطينيين في الساحات المختلفة، فلسطينية وعربية ودولية، مفاده كيف لعملنا أن يكون مؤثراً ويحقق المأمول منه إذا لم يكن هناك مشروع وطني فلسطيني واضح المعالم ومتّفق عليه، يضبط البوصلة، وينظم الجهود المبذولة، ويصهرها في بوتقة واحدة، ويستوعب الإنجازات التي تتراكم ويفيد منها؟ ليس هذا سؤالاً نظريّاً، بل هو حقيقي ومثار في غير ساحة من ساحات النضال من أجل القضية الفلسطينية، أولها في فلسطين المحتلة نفسها، سواء في الضفة الغربية أم في قطاع غزة أم في داخل الأرض المحتلة عام 1948. من ذلك، مثلاً، مشروع التفاوض الذي تمضي به القيادة الرسمية الفلسطينية من دون إجماع وطني أو فصائلي، ومن دون ثوابت وضوابط وأهداف واضحة، بل وحتى من دون كفاءة سياسية وتفاوضية. في المقابل، هناك مقاومة باسلة، لكنها من دون عمق سياسي حقيقي قادر على توظيف إنجازاتها. أما في فلسطين المحتلة عام 1948، أين يتمتع الفلسطينيون بالجنسية الإسرائيلية، فلا زال الخلاف حول المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، مثلاً، قائماً، بل إن قوى سياسية فلسطينية مضت أبعد ذلك في توفير شبكة أمان لحكومة يمينية، ويبدو أن هذا الأمر قد يتكرّر.

كما سبق القول، هذا الهاجس ليس حبيس ساحة واحدة، بل يشمل ساحات العمل الفلسطيني كلها، بما في ذلك الساحة الأميركية التي أنشط فيها. وكثيراً ما تجده يعبر عن نفسه خلال النقاشات التي تجرى حول آليات وأساليب معينة يرى فيها أصحابها كشفاً وتعرية للأبرتهايد والإجرام الإسرائيلي، وتعزيزاً للسردية الفلسطينية وعدالتها. من ذلك مثلاً، أننا عندما نضغط، كمواطنين أميركيين، من أجل وقف المعونات العسكرية الأميركية لإسرائيل، أو على الأقل رهنها بوقف خرقها المعاير والقوانين الإنسانية والدولية بحق الشعب الفلسطيني، يخرج من يقول: وماذا عن السلطة الفلسطينية و”التنسيق” الأمني الذي تقوم به مع الاحتلال الإسرائيلي؟ منطق هؤلاء، وهو مصيب، أن السلطة الفلسطينية تحولت إلى إحدى أهم وسائل الإخضاع الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني وتأبيد احتلاله، وأجهزتها الأمنية، من حيث النشأة والتكوين، قامت كي تكون تبعاً لنظيراتها الإسرائيلية، والولايات المتحدة تقوم بتدريبها وتجهيزها وتمويلها ما دامت تقوم بالدور المرسوم لها. أيضاً، أحياناً يكون الجهد مصبوباً على بناء كتلة سياسية يؤمل أن يكون في مقدورها الضغط مستقبلاً على صناع القرار الأميركي لاحترام قرارات “الشرعية الدولية” في ما يتعلق بالقدس المحتلة أو الاستيطان مثلاً. حينها، يكون السؤال: وماذا لو نجحنا في تحقيق ذلك يوماً ما، هل ستقبل قوى المقاومة الفلسطينية باعتراف أميركي بـ”القدس الشرقية” عاصمة لدولة فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة، من دون بقية فلسطين التاريخية؟

هذه مجرّد أمثلة لا يمكن اختزال المعضلة الفلسطينية فيها، خصوصاً أن الحديث عن إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، على أرضية التوافق، يبدو، للأسف، وكأنه من أنواع الترف الفكري أو السياسي في هذه المرحلة. أمام هذا الواقع المرُّ، ما هو الحل؟ أنعطّل جهودنا، في كل ساحات وجودنا، في انتظار صياغة مشروع وطني فلسطيني شامل ومتكامل، قد يأتي أو لا يأتي؟ أم نستمر بعملنا، كلّ في ساحته وصعيده، حتى في غياب مرجعية وطنية عليا، تضبط النشاط، وتؤطر المبادئ والثوابت الاستراتيجية التي لا تنازل عنها، والحدود الدنيا التي يمكن القبول بها تكتيكياً؟

لا أزعم أني أملك إجابة جامعة مانعة، ولكني أريد أن أتحدّث من وحي خبرتي المتواضعة لصالح القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة. ثمَّة أوليتان مهمتان هنا. الأولى، أن المشروع الكولونيالي الإحلالي الصهيوني في فلسطين هو امتداد للمشروع الكولونيالي الغربي العنيف لا ينفك عنه أبداً، وهو يهدف إلى إبقاء المنطقة العربية ممزّقة وضعيفة ومستنزفة. الثانية، أن المشروع الصهيوني في فلسطين، وكما أنه متعدّد المستويات، إنسانياً، دينياً، تاريخياً، استراتيجياً، فكرياً، حقوقياً، سياسياً، قانونياً، إعلامياً… إلخ، فإنه، أيضاً، متعدّد الساحات، ولا يقتصر ذلك على الوجود اليهودي الصهيوني في دول وقارات شتى فحسب. بمعنى أنه لولا الدعم الغربي الذي تجده إسرائيل، وخصوصاً من الولايات المتحدة، والتواطؤ أو الضعف الدولي حيال عدوانها، لما كانت قادرة على الاستمرار. وكانت الحركة الصهيونية أدركت، منذ مرحلة مبكرة من عمرها، أنها بحاجة إلى أن تكون حاضرة ومتغلغلة في ساحات دولية كثيرة لحماية مشروعها العدواني في فلسطين، وهي لا زالت وفية لهذا المنطق. ولذلك نرى المساعي الإسرائيلية الحثيثة لتوسعة نفوذها وتغللها ما وراء العمقين، الأميركي الشمالي والأوروبي، كما في أفريقيا وآسيا، وتحديداً الصين، وبين دول أميركا الوسطى واللاتينية، وكذلك في المحيطين العربي والإسلامي.

انطلاقاً من تلكما الأوليتين، نجح المشروع الصهيوني في إرهاق المقاومة الفلسطينية والعربية، إذ إنه ليس محصوراً في فلسطين التاريخية ولا المنطقة فحسب، وهو قطعاً لن يُهزم بالضربة القاضية فيهما، إلا إذا استوعبنا تشعباته الكثيرة التي تمده بأسباب الحياة. ومن ثمَّ يكون الحلّ في العمل على التصدّي له في كل الساحات الممكنة، وفي مقدمتها الأكثر أهمية بالنسبة لوجوده واستمراره وازدهاره، وتحديداً في أميركا الشمالية وأوروبا. هذا يتطلب، أيضاً، تنويع مستويات الصراع معه وأدواته، حسب متطلبات كل ساحة ومعطياتها وحقائقها ومحدوديتها، وأفقها كذلك. بمعنى، المطلوب إرهاق المشروع الصهيوني واستنزافه بتكثير مستويات الصراع وجبهاته والمواجهة معه ومحاولة حصاره، فاتهامه بأنه نظام أبرتهايد، مثلاً، ونزع الشرعية الأخلاقية عنه دولياً، لا يقلان أهمية عن صمود الفلسطيني على أرضه. والسعي إلى تقليص حجم نفوذه في دول الغرب يجعله مضطرّاً لمضاعفة جهوده وتوجيه مزيد من إمكاناته للدفاع عن ذلك النفوذ، وهو لا شك سيكون على حساب توسعته وتعزيزه.

أفهم أن ما سبق ليس بديلاً عن صياغة مشروع وطني فلسطيني شامل ومتكامل، يوظف إمكانات الفلسطينيين وحلفائهم في كل مكان. لكن، في ظل غياب تلك الفرصة، على الأقل راهناً، فإن كل ساحة ينبغي أن تنهض بدورها، ضمن رؤية واضحة، مدركة معطياتها وخصوصياتها وفضاء إمكانها، لمشاغلة المشروع الصهيوني على جبهة محدّدة، واضطراره إلى الدفاع عن ثغوره التي ظنّها محصّنة، وهو ما سيرهقه ويستنزفه مع الوقت ويضعضع جدرانه، وقد يقود إلى انهياره تحت وطأتي المقاومة الداخلية له، والضغط الخارجي عليه. إذا استوعبنا هذه المعطيات، فلا يُستبعد أن ينشأ إطار وطني فلسطيني جَمعِي يدمج عمل كل الساحات والمستويات المختلفة والمتعددة، ويصهره في مشروع وطني فلسطيني متماسك، حتى ولو اختارت القيادة الرسمية أن تبقى على هامشه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى