كتبت بثينة شعبان : إذا ما تناولنا الأحداث التي جرت على مستوى العالم خلال أسبوع أو أسبوعين، نجد أنّ حقيقة الصراع الدائر تتجاوز الطبيعة العسكرية والسياسية إلى الفكرية والعقائدية والمفهوماتية، لأنّ الكل يعمل جاهداً من أجل استلام سدّة المستقبل وفق رؤاه ومنهجيّته.
إذا ما بدأنا اليوم من الأمم المتحدة واللجنة الثالثة في الجمعية العامّة، التي تبنّت مشروع قرار روسي لمكافحة تمجيد النازيّة والنازيّة الجديدة، إذ يوصي القرار باتّخاذ الدول تدابير ملموسة ومناسبة، “بما في ذلك في مجال التشريعات والتعليم، وفقاً لالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان بمنع تزييف تاريخ الحرب العالمية الثانية ونتائجها وإنكار الجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية”، لاكتشفنا أنها المرة الأولى في التاريخ التي تصوّت فيها دول مثل إيطاليا والنمسا وألمانيا ضدّ هذا القرار، علماً أنّ ممثلي هذه الدول ذاتها أقسموا عام 2011 أنهم لن يتمكّنوا إطلاقاً من التصويت ضدّ وثيقة تدين تمجيد النازيّة لأسباب مبدئية.
وعلى الرغم من أن هذا القرار تم تبنيه، فإنّ تصويت دول عانت شعوبها من النازية في الحرب العالمية الثانية ضدّ قرار يدين تمجيد النازيّة أمر مستغرب وخطر، لأنه يدقّ ناقوس الخطر بأنّ كلّ شيء ممكن، وأننا نشهد تدمير كلّ الخطوط الحمر المبدئية والإنسانية والعقلانية، وهذا ليس الحدث الوحيد الذي يدعو إلى التساؤل المعمّق عن الوجهة التي يتّجه إليها العالم اليوم، وعن دوافع بعض القيادات والدول التي تضرب حتى بمقولاتها النظرية عرض الحائط حين يتعلّق الأمر باتخاذ قرار قد يظهر صحّة رؤية خصومها على حساب رؤيتها.
منذ وقت قريب جداً، صوتت الجمعية العالمية بأغلبية 185 صوتاً على إدانة استمرار الحصار على كوبا والمطالبة برفع هذا الحصار. هذا التصويت يمثّل أكبر إجماع من الأسرة الدولية لرفع الظلم عن الشعب الكوبي الذي عانى على مدى 50 عاماً ونيّف عقوبات جماعية إجرامية لم يقترف ذنباً ليستحقّها.
الخطر في هذين المثالين هو أن هذه الأسرة الدولية، وخصوصاً الأمم المتحدة، تعاني منعطفاً خطراً في أدبياتها وهيبتها وقدرتها على الحفاظ على الحدّ الأدنى من مسار منطقيّ لما سمّوه بعد الحرب العالمية الثانية “الشرعية الدولية”، ما يعني بالطبع أنّ النظم والأساسيات التي اتفقت الأطراف على إرسائها بعد الحرب العالمية الثانية تتعرّض لهزّة عنيفة نتيجة مخاض صعب يخوضه العالم برمّته بغية التوصّل إلى شكل مقبول لنظام عالميّ ذي مصداقية ينال احترام الدول، صغيرها وكبيرها، غنيّها وفقيرها، وهذا هو المفصل التاريخي الذي يقف عنده عالم اليوم.
من هذا المنظور بالذّات، يمكن أن نفسّر كلّ ما يجري في عالم اليوم، من أوكرانيا إلى الشمال الشرقيّ والشمال الغربي من سوريا، إلى بحر الصين والمحيط الهادئ، إلى فلسطين المحتلة والجولان العربيّ المحتلّ.
ربما كانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا الشرارة التي أطلقت هذا المسار، وإن بدأ المخاض منذ عام 2014، وأنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة، التي قالت إنها لم تُفاجأ بالعملية العسكرية الروسية عام 2022، لأنه في ذلك الوقت كانت اتفاقيات مينسك قد انهارت، في إشارةٍ إلى الاتفاق بين روسيا وألمانيا وفرنسا، الذي كان الهدف منه إعطاء المناطق الشرقية في أوكرانيا وضعاً خاصاً.
وقد سمعنا الوزير لافروف وعدداً من المسؤولين الروس ينادون بتطبيق اتفاق مينسك مرّات عديدة قبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
ما يحاول الغرب فعله اليوم هو الحفاظ على حال استنزاف هادئة لروسيا من جهة، ولأيّ تحرّك قد يؤدّي إلى تغيير قبضة الهيمنة الغربية على مقدّرات الدول والشعوب وقراراتها من جهة ثانية. وفي هذا الصّدد، فإنهم يخوضون حرباً فكرية إعلامية ومفهوماتية للإبقاء على سطوة الغرب في أذهان الأجيال، وإلا ما الذي يعنيه أن يتّخذ البرلمان الأوروبي قراراً يقضي بأنّ روسيا دولة راعية للإرهاب؟ وما أهمّية هذا القرار على أرض الواقع وترجمته سوى إظهار هيمنة غربية في تصنيف الدول وتوزيع شهادة سلوك لمن يريدون وإدانة من يشاؤون، وكأنّ أحكامهم قدرٌ واجب التنفيذ على أرض الواقع، مع أنها في كثير من الأحيان لا تتجاوز الفقاعة الإعلامية التي ولّدتها.
وفي أبسط التحاليل المعمّقة، يظهر النفاق الغربيّ ويتّضح أنّ الزبد الذي يخلقونه لا قيمة ولا أثر له سوى إيهام الآخرين بقوّتهم وقدرتهم على الاستمرار في الإمساك بمقاليد الأمور، فالولايات المتحدة التي تدّعي محاربة “داعش” في سوريا كانت حارساً، وما زالت، لكلّ البؤر الإرهابية، من التنف إلى الشمال الشرقي من سوريا. واليوم، تقدّم غطاء لحفنة من الخونة الذين يمنعون تدريس المناهج الوطنية السورية في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”.
ويستخدم مسؤولون أميركيون تصريحاتهم ودعوتهم قوّات الكيان الصهيوني “لتعزيز السلطة الفلسطينية” كمسكّن فقط لاستمرار إعدام الشباب الفلسطيني يومياً على أيدي الإرهابيين الصهاينة، مع تجاهل كامل للحقوق الفلسطينية وضرورة تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، إذ لا يمكن أن يكتسب أيّ ادّعاء غربيّ لمحاربة الإرهاب أيّ مصداقية ما داموا يرفضون تعريف الإرهاب، لأنهم يعلمون أنّ الاحتلال هو أسوأ أنواع الإرهاب، وهم لا يريدون الوصول إلى هذه النتيجة خدمةً للكيان الصهيوني العنصري.
ومن أوجه النفاق أيضاً أنّ ألمانيا تدعو إلى منع التصعيد بين روسيا والناتو، وتدعو في الوقت ذاته إلى ضرورة تزويد أوكرانيا بالأسلحة لمحاربة روسيا! وفي الوقت الذي تعمل الولايات المتحدة على استمرار العلاقة مع الصين وعدم التصعيد، فإنها تشكّل تحالفات إقليمية في مقابل الصين، وفي أميركا الوسطى، وفي كلّ منطقة تتمكن من تشكيل كتلة تساند الهيمنة الغربية وتقف في وجه تشكّل عالم جديد متعدّد الأقطاب تحلم معظم البشرية بولادته.
لا شكّ في أن الحرب الإرهابية على سوريا والإعلام المضلّل الذي كان إحدى أهمّ أدواتها، وما يجري في أوكرانيا اليوم، والكذب الغربيّ، والهوّة التي تزداد اتساعاً كلّ يوم بين ما يقوله الغرب من جهة وما يفعله من جهة أخرى، ساهمت كلها في كشف حقيقة الأنظمة الغربية وما تدّعيه من حرص على الحريّة وعلى حقوق الإنسان والديمقراطية.
كما أنّ المسار الليبرالي الذي ابتدعه الغرب الإمبريالي وروّج له، والذي يشوّه الطبيعة الإنسانية ويضرب بعرض الحائط الصفات الإنسانية العفوية لتحلّ محلّها سلوكيات ومفاهيم ما أنزل الله بها من سلطان، أقلّ ما يقال عنها إنها شيطانية، يضاف أيضاً إلى انكشاف حقيقة الغرب الاستعماريّ في أعين وأذهان كلّ من يتمتّع بسليقة طبيعية لا يعتريها أيّ تشويه.
أضف إلى هذا أنّ الرؤى التي يقدّمها الرئيس بوتين والرئيس شي جين بينغ عن العالم الذي نصبو جميعاً إلى العيش فيه، تظهر التفوّق الأخلاقي للشرق على الغرب، وتعد بولادة عالم منسجم مع أسمى الأخلاق التي نصّت عليها الأديان وآمن بها البشر في كلّ أنحاء المعمورة.
يمكن القول إنّ كلّ التحرّكات العسكرية والدبلوماسية والإعلامية والفكرية تهدف إلى تثبيت هيمنة الغرب الاستعماري الذي اعتاد نهب ثروات الشعوب على قرار الأسرة الدولية واستمرار سيطرته على ثروات الشعوب ومقدّراتها، ولكن أول الغيث قطرة. وقد بدأت قطرات عدّة على المستوى العالمي، من موقف روسيا، إلى الرؤى التي تقدّمها الصين، إلى المناورات الصينية الروسية المشتركة، إلى انكشاف حقيقة التضليل الإعلامي والمفهوماتي الذي مارسه الغرب على مدى عقود، إلى انفضاح الأوهام التي يضعها الغرب عند كلّ مفصل ومناسبة، ما سيؤدي في النهاية إلى عالم متعدّد الأقطاب يساهم الضمير الإنساني في صياغته على أسس الاحترام والمصالح المتبادلة بعيداً من الهيمنة والحروب.