تحالف الراغبين.. اليقظة الإستراتيجية لأوروبا

كتب د. نورة صالح المجيم, في “القبس” :
في خطورة غير معهودة من إنكلترا المعروف عنها تماهي قرارها الخارجي التام مع قرار واشنطن في جل القضايا الاستراتيجية الحساسة، أعلن رئيس وزرائها كير ستارمر عن مبادرة تأسيس «تحالف الراغبين»، أثناء استضافته لرئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي، والتي جاءت بعد لقائه العاصف مع ترامب في البيت الأبيض.
وفي هذا اللقاء الذي أعلن فيه عن المبادرة، أعلن أيضاً عن تقديم دعم لأوكرانيا بمليار و600 مليون، لتقوية جهودها في الحرب مع روسيا. وأعلنت مجموعة دول أوروبية، وعلى رأسها فرنسا، عن تحمسها للانضمام للتحالف، كما أعلنت تركيا أيضا عن ذلك.
ما أسباب ودلالات هذا التحالف؟
تسعى أوروبا منذ ولاية ترامب الأولى إلى ما يسمى «الاستقلالية الاستراتيجية الأمنية»، وكانت فرنسا تحديدا التي تقود هذا التوجه، بيد أن تحقيق هذه الاستقلالية التامة، وهي تعني «اعتماد أوروبا على نفسها أو الدفاع عن نفسها بمفردها (عند الضرورة القصوى) دون اللجوء إلى واشنطن ومن ورائها حلف الناتو»، تواجه الكثير من التحديات العصية، التي من بينها التكلفة المادية الباهظة، وتحدى القيادة، وتحدي تجهيز كل المجموعة الأوروبية للتخلّي عن الاعتماد الأمني المزمن على واشنطن وحلف الناتو. وبطبيعة الحال لم تكن بريطانيا، التي هي بالأساس خارج الاتحاد، متحمسة لتلك الاستقلالية، بل تعارضها بشدة، لكن بين ليلة وضحاها أصبحت الآن التي تقود الجهود لتلك الاستقلالية. يمثل البقاء والحفاظ على أمن الدولة وسيادتها واستقرارها الهدف الأسمى، الذي لا خلاف عليه بين جميع مدراس العلاقات الدولية، ويكمن الاختلاف فقط في كيفية تحقيقه.
لعل أوروبا بالطبع كانت أكثر المنزعجين من فوز ترامب الساحق الأخير، على خلفية التوتر الشديد معه في ولايته الأولى، وتعد كلمة نائب ترامب (دي فانس)، في مؤتمر ميونخ للأمن، أول اختبار حقيقي للعلاقة بين الطرفين منذ فوز ترامب، استشعرت أوروبا، من خلال تصريحات دي فانس اللاذعة غير المسبوقة وغير المتوقعة لأوروبا، أن ثمة تغيراً جذرياً على أصعدة متعددة، ومنها الداخل الأمريكي، والتحالف الإستراتيجي بين شركاء الأطلسي. الشاهد في الأمر، استشعرت أوروبا أنها أمام أمريكا جديدة تماماً غير التي تعرفها، أمريكا التي لا تعبأ إلا بمصالحها، على استعداد لمناصبة العداء لأقرب الحلفاء، بل على استعداد للتحالف مع أعداء أصدقائها من أجل مصالحها.
وكانت اللطمة الكبرى لأوروبا خلال لقاء ترامب بزيلينسكي في البيت الأبيض، حيث كشف ترامب عن جميع نواياه وأهدافه بشأن الحرب الأوكرانية، وملخصها يكمن في الاستحواذ على معادن أوكرانيا مقابل منح بوتين ما يريد، حيث رفض مطلب زيلينسكي بتقديم أية ضمانات أمنية مقابل صفقة المعادن، وهو ما يعني لأوروبا إمكانية منح أوكرانيا برمتها لبوتين.
ويمثل ذلك لأوروبا تطوراً في غاية الخطورة، لأنه قد أصبح يمس صميم الأمن الأوروبي برمته، بل وبقاء الكثير من الدول الأوروبية، حيث تخشى أوروبا من توسع طموحات بوتين لتطول الجزء الشرقي لأوروبا. وهذا بالطبع كان مدعاة رئيسية، ليس فقط لعودة التكاتف الأوروبي، بل أيضاً لقيادته من جانب إنكلترا، والذي تجسّد في «تحالف الراغبين».
يمثل التحالف نواة لتشكيل قوة أوروبية، لن تضم جميع المجموعة الأوروبية بالطبع، بل على الأقل القوى الكبرى فيه (إنكلترا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا.. وغيرها من الدول كالدنمارك). وهو في الواقع يمثل أيضاً بداية اليقظة الاستراتيجية لأوروبا، للتصدي للتحدي الروسي الخطير بمفردها، وبالتبيعة يمثّل التحالف تحدياً لحلف الناتو. فخلال الأيام القليلة السابقة، أعلن ماكرون صراحة عن إمكانية الردع النووي تجاه روسيا، كما أعلنت دول أوروبية عدة أخرى عن ضرورة تسليح أوروبا بصورة عاجلة.
خلاصة القول: يمثل تحالف الراغبين الأوروبي ضد روسيا بداية اليقظة الاستراتيجية لأوروبا، إذ فيما يبدو ستعمل أوروبا من الآن على تكثيف تضامنها، وتعزيز قوتها العسكرية لضمان العمل بمفردها دون واشنطن وحلف الناتو.