رأي

تبديد وهاري كاري سوداني

كتب عمر العمر في صحيفة العربي الجديد.

كأنما سلّمنا بجدّية الانقلابيّين في السودان في إسناد إدارة الدولة إلى تكنوقراط، للخروج من تحت أنقاض الحرب الدائرة. هذه فريةٌ يضاهيها الاعتقاد بقدرات التكنوقراط على مغامرة الإنقاذ، فهذا وهمٌ يستوجب الفرز بين إنقاذ الانقلابيّين من المأزق وإنقاذ الدولة من المحرقة. هكذا يتشعّب بنا الجدل في تحديد هُويَّات المُستوزَرين الجدد، فيما هم خبراء اختصاصيون أم مثقفون مستقطبون أم متعلمون انتهازيون؟ كما يتسعُ الجدل ليشمل البراعةَ السياسية المفترضةَ لدى التكنوقراط، وصولاً إلى ضفاف النجاح. إذ يقفز كلّ هذا الكلام فوق غياب برنامج استرداد تطبيع الحياة، وهو محور شروط انتقاء الكفاءات المُستتبَعة. التصنيف الحصيف قضية ظلّت قلقاً فكرياً منذ استحدث سلامة موسى لغوياً في الأدب الفكري السياسي العربي مصطلح المثقّف في عشرينيّات القرن العشرين.

هو قلقٌ ربّما يعيننا عليه أنطونيو غرامشي، كاتب “دفاتر السجن”، والفرنسي جوليان بندا صاحب “خيانة المثقّفين”، ثمّ إدوارد سعيد مؤلف “المثقّف والسلطة”. لكنّا مع ذلك نحتاجُ إلى فرزٍ دقيق بين المتعلم والمثقف والمفكّر والخبير الاختصاصي والنخبة والإنتلجينسيا والتكنوقراط، عند الخوض في علاقاتهم بالسلطة. أنا أقرب إلى طرح غرامشي من زاوية علاقة المثقّف بالسلطة، فهو أكثر من غيره إيضاحاً لتعريف المثقّف بالحرص على الوعي بقيم الحرية والعدالة، بل البذل من أجل تحقيقها. هذه الإضاءة على وجه التحديد تميّز غرامشي، إذ يكسر تعريفه طوق المتعلّمين إلى آفاق المهنيين والحرفيين. لكنّهم يلتقون عند جسر الانتماء إلى الوعي. هذا ما يعنيني في شأن التدافع لجهة سلطة الانقلابيّين، استوزاراً أو إسناداً. فحين يكون الخيار بين تجمّع نظام انقلابي ومعسكر ينادي بالديمقراطية، فإن الانحياز إلى المعسكر لا يكون خياراً صائباً فقط، بل مساهمةً في نشر السلام والخير. هذا هو الفارق بين فسطاطَي الحرية والقمع؛ النور والظلام. فالوقوف في وجه النظام العسكري الانقلابي يجسّد موقفاً ضدّ الاستبداد، وضدّ القمع، وضدّ الظلم والفساد، كما هو جهدٌ من أجل رفع منسوب الوعي بالحرية والعدل والخير والتقدّم. هذا هو محور رؤى غرامشي، إذ يطرح هيمنة الوعي في مقابل سيطرة القمع. لذلك يستعصي فهم منهج سلوك الراحلين إلى بورتسودان زرافات ووحداناً، ممّن ينتمون إلى فيالق حزبية، يُفترضُ فيها العداءُ المطلق مع أشكال الأنظمة كافّة، المصادرة لأدوات العمل السياسي الديمقراطي ومواعينه. كما يُبطل ذلك الوعي، وهذا الانتماء، محاولات تبرير المُستوزَرين بتكريس جهودهم من أجل الشعب والوطن. فخدمة الشعب تتم عبر الانحياز إلى معسكر المناضلين من أجل استعادة وتثبيت الحرية والعدالة والتداول السلمي للسلطة، باعتبارها غايات بعيدة المدى في سكّة الخير والنماء. من المؤسف ألّا يدرك بعضُ هؤلاء (وأولئك) أنهم يبدّدون بعضاً من أرصدتهم المكتسبة بجهود ذاتية أو عبر مواهب فطرية.

كلّ موقف يعضّد العمل الجماعي داخل معسكر الحرية والعدالة هو جهدٌ يوسّع آفاق الوعي الوطني، ويُضيّق على محاور الاستبداد والفساد

كان إبراهيم الأمين الذي تقلّد مناصبَ رفيعةً في حزب الأمة في غنىً عن أن ينهي مسيرته بحجةٍ إلى بورتسودان، في لجّة الكلام غير المباح في شأن تعزيز لما تسمّى زوراً حرب الكرامة. ما كان ينبغي لزيارة بورتسودان أن تعضّد أزر الجند، بقدر ما تستهدف الشدّ على يدي الجنرال الانقلابي. أولا يدري الأمين من مسيرته السياسية طويلة العمر أن أيّ جهدٍ في درب ترميم التصدعات داخل حزبه أفضل للحراك السياسي والسلام والديمقراطية والوطن من فعلته التي فعل؟ وكان طبيباً نابهاً، وشاعراً له رصيدٌ من صيتٍ مجتمعي، في غنى عن أن يبدّده مقابل منصب وزاري في شبه دولة قصيرة الأجل، والزعمُ بأنه يتأبّط مشروعاً للنهوض الصحّي يدين رؤيته الحالمة. فالمرحلة الحالية في الوطن تستدعي مشروع إسعاف عاجل تفرضه حالةُ مقاومة الأوبئة، وإصلاح البيئة مقابل نقص الكوادر وشحّ الإمكانات. فهل يعلم الطبيب الشاعر عددَ المستشفيات داخل الخدمة حالياً وأعدادَ من بقي من الأطباء، الاختصاصيين والجرّاحين، في ظلّ الحرب وحجمَ الحاجة الملحّة للأجهزة الطبّية الضروري والأدوية؟… دع عنك الحديث عن انعدام قواعد البنى الأساسية لبناء أي مشروع وطني في هذه المرحلة، إذ يتطلّب الوطن تضميد الجراح أولاً.

تلبيس الأغراض الخاصّة كساء الوطنية إدعاءٌ زائف، فالموقف الوطني يتجاوز المصالح الضيّقة زمانياً على الأقلّ لجهة المستقبل البعيد، فكلّ موقف يعضّد العمل الجماعي داخل معسكر الحرية والعدالة هو جهدٌ يوسّع آفاق الوعي الوطني، ويُضيّق على محاور الاستبداد والفساد. لو تأمّل المتدافعون إلى بورتسودان في تعثّر مخاض التشكيل الحكومي فقط، لأدركوا جانباً واحداً على الأقلّ من حالة الارتباك المركّبة، المطبقة على النظام الانقلابي، فوراء المخاض ليس أزمة المحاصصة المفتعلة فقط، بل إحجامُ كفاءاتٍ وطنية عن تلويث أنفسهم أو عائلاتهم بالتورّط في هذه المهزلة المتنازعة بين الطموحات الشخصية والأهواء الشللية على حساب الشعب. فالقفز إلى هذا المركب الجانح في الوحل ليس سوى ضرب من التهيؤ لممارسة الانتحار السياسي على طريقة الساموراي الياباني، فهولاء يُقطّعون أحشاء ذاكرتهم السياسية والاجتماعية على نهج طقس الهاري كاري.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى