بين التوتر والأمراض علاقة يقوم على أساسها الطب الشرقي.
يجمع العلماء على أن معظم الضغوط التي تؤدي إلى اضطرابات جسدية هي نفسية في الأصل، وفي عصر أصبح فيه التوتر سمة دائمة لمعاصريه، ويأتي هذا التوتر استجابة لتهديد متصور حقيقي أو وهمي يمكن أن يهدد أمن وتوازن الجسد، ويولد استمرار هذا الإجهاد آثاراً جسدية سلبية يزيد خطرها بتكيف الجسد عليها مع الوقت، وهذا التكيف يمكن أن يحدثه الإجهاد اليومي المستمر، مثل ضغوط الدراسة والعمل والأسرة في المدرسة، أو التغيير المفاجئ في نمط الحياة، مثل فقدان الوظيفة أو الطلاق أو المرض، أو التجارب المؤلمة، مثل سوء المعاملة أو الحوادث الكبيرة أو النزاعات.
متلازمة التكيف العام
في خمسينيات القرن الماضي قدم عالم النفس النمسوي الرائد في دراسات الضغط النفسي ومؤسس معهد الطب التجريبي والجراحة بجامعة “مونتريال” هانز سيلي مفهوم متلازمة التكيف العام (GAS)، أو (general adaptation syndrome)، وهي الحالة التي يخضع لها الجسد عند التعرض لضغوط خارجية أو توتر داخلي، في محاولة لاستعادة توازنه من جديد بالاستعانة بالهرمونات، وتحدث هذه التغييرات على مراحل ثلاث، هي رد فعل تحذيري، والقتال أو الهرب، ثم مرحلة المقاومة، وأخيراً مرحلة الاستنزاف أو متلازمة الإرهاق.
وتحدث في المرحلة الأولى استجابة الجسد الأولية للتوتر، إذ يفرز الدماغ هرمونات ومحفزات لتنشيط الجهاز العصبي الودي (السمبثاوي)، وهو جزء من الجهاز العصبي التلقائي (اللاإرادي) الذي ينظم وظائف القلب والمعدة والأمعاء، وكذلك العضلات، الأمر الذي يؤدي إلى تحفيز عمل الغدد الكظرية التي تحفز بدورها إفراز هرمونات معينة، بما في ذلك الأدرينالين والنورادرينالين، ويتسبب ذلك كله في ظهور أعراض جسدية مثل زيادة معدل ضربات القلب ومعدل التنفس وضغط الدم، وخلال هذه المرحلة، تتوقف حركة المعدة وعملية الهضم وينخفض وصول الدم إلى بطانة المعدة فتزداد الحموضة ويحدث إفراط في إنتاج الأنزيمات الهاضمة، ومن الممكن أن يتأثر الجهاز القلبي الوعائي عندما يصبح التوتر مزمناً، وقد تصل في بعض الأحيان إلى سكتات دماغية ونوبات قلبية. ووفقاً لسيلي، فمعظم أعراض مرحلة استجابة الإنذار إما أن تختفي وإما أن تنعكس في المرحلة التالية (المقاومة)، ثم تعود للظهور في المرحلة النهائية من الإرهاق.
التمسك بالتوتر
في مرحلة المقاومة يحاول الجسم استعادة توازنه واستقراره الداخلي وإصلاح نفسه بعد الصدمة الأولية من الإجهاد، وتظهر في هذه المرحلة إمكانية تغلب الجسد على التوتر إذا لم يعد الموقف المجهد موجوداً، بالتالي يبدأ معدل ضربات القلب وضغط الدم في العودة إلى مستويات ما قبل الإجهاد خلال هذه المرحلة، لكن إذا استمر الموقف المجهد لفترة طويلة أو في حال لم تحل مسألة التوتر، سيستمر الجسم في إفراز هرمونات التوتر ولن يستطيع العودة مجدداً إلى مستويات الأداء الطبيعية، ويمكن أن تسبب المستويات الطويلة من الإجهاد المرتفع اضطرابات في الجهاز المناعي والهضمي والقلب والأوعية الدموية والنوم والجهاز التناسلي، مصاحباً أعراضاً مثل مشاعر الخوف أو الغضب أو الحزن أو القلق أو الإحباط، وتغيرات في الشهية والطاقة والاهتمامات ومشكلات في المعدة والطفح الجلدي والأرق أو الكوابيس والصعوبة في التركيز أو اتخاذ القرارات وغيرها، وهذا الضغط المطول الذي لم تتم معالجته سيؤدي إلى المرحلة الثالثة.
متلازمة الإرهاق
ويؤدي الإجهاد المطول أو المزمن إلى المرحلة الأخيرة من متلازمة التكيف العامة، فمع استمرار تحمل الضغوط من دون تخفيفها تستنزف موارد الجسد العاطفية والعقلية إلى الحد الذي يتجاوز قدرة آليات التكيف في الجسد ويصبح فيه غير قادر على التعامل مع الإجهاد، فيحدث الإنهاك شاملاً علامات مثل التعب والاحتراق وانخفاض تحمل الإجهاد، الأمر الذي يقمع الجهاز المناعي ويضعف دفاعات الجسد لتصبح عاجزة عن مواجهة تأثيرات التوتر، وفي هذه المرحلة تبدأ الأعراض المرضية بالظهور بشكل واضح وصريح، ويزيد خطر الإصابة بأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم والسكري والحالات الصحية المزمنة الأخرى، بما في ذلك اضطرابات الصحة العقلية مثل الاكتئاب أو القلق.
وفي شرح أبسط للمراحل الثلاث يمكن أن نجد أنه قبل الإقدام على أمر ما يكون لديك توتر كبير وتظهر أعراض هذا التوتر بشكل طبيعي، لكن بعد انتهاء الموقف، وفي حال لم تنجح في تبديل تركيزك على أشياء أخرى فستستمر الأعراض والقلق، بالتالي تدخل في المرحلة الثالثة وتستمر في التفكير والتساؤل حول الموقف حتى حدوث الإنهاك والأعراض الجسدية الصادمة، إذا هناك ربط واضح بين شكل الاستجابة للتوتر والتعرض للأمراض البدنية.
وهنا يمكن لأي تقنية من تقنيات تخفيف التوتر أن تساعد بشكل أو بآخر في هذه الحالة، مثل التنفس الحجابي واسترخاء العضلات التدريجي واليقظة الذهنية والنشاط البدني والحد من التعرض للمثيرات.
الطاقة الحيوية ونظام المناعة
ويعتقد في الطب الشرقي أنه كما أن هناك شبكة أعصاب إرادية وجهازاً عصبياً لا إرادياً، هناك أيضاً مسارات للطاقة معروفة منذ فترة طويلة، وهي تنقل الطاقة الحيوية إلى الأعضاء الداخلية، وأن الديناميكية الكامنة خلف الأمراض تحدث من خلال آليات يتم تنفيذها عبر تغييرات تنجم من العقل وتؤثر في تدفق طاقة نظام الطاقة الحيوية.
ويتم تنظيم توازن نظام مسارات الطاقة الكلي بالجسم من خلال الغدة الزعترية، إذ ترتبط الطاقة الحيوية ارتباطاً وثيقاً بنظام المناعة في الجسم من خلال هذه الغدة، فالتوتر الشديد يضعف الجهاز المناعي ويكبح عمل الغدة ويخل بتوازن نظام الطاقة الحيوية.
اليقظة الذهنية والتأمل
وفي وقت سابق أشار تحليل دراسات متعددة نشرت في مجلة “الطب البديل والتكميلي” إلى أن من المحتمل أن تساعد الممارسات العقلية الموازية لتلك الجسدية المرضى في إدارة وضع مرض السكري من النوع الثاني، وتفسير ذلك أن هذه الأنوع من الأنشطة تساعد في التحكم في نسبة السكر في الدم من خلال الدور الكبير الذي تلعبه في تقليل التوتر، إذ تساعد ممارسات اليقظة على الاسترخاء الذي يؤدي بدوره إلى خفض مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر) ما يحسن مقاومة الأنسولين ويحافظ على مستويات السكر في الدم تحت السيطرة، بالتالي يخفض مستويات “الهيموغلوبين”A1C ، وهو علامة رئيسة لمرض السكري.
وكشفت دراسات عدة عن الرابط بين ممارسة التأمل وتخفيف الضغط والاكتئاب، إذ إن للتأمل تأثيراً على تخفيف ردة الفعل الالتهابية الناتجة من التوتر، مما ينتج منه تخفيف الاكتئاب، فممارسة التأمل ساعدت على تحفيز زيادة النشاط في قشرة الفص الجبهي الأيسر (حيث المشاعر الإيجابية) وإنتاج سعة عالية من موجة “غاما”، وهي علامة على توسع مستوى الوعي واليقظة.