بنغلاديش.. خصائص الموقع والدور

كتب د. ناصر زيدان في صحيفة الخليج.
لم تنته حكاية الأزمة في بنغلاديش مع رحيل رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد هرباً في 5 آب/أغسطس الجاري، وخروجها من الحكم؛ إثر انتفاضة طلابية داخلية عارمة، لكن ذلك فتح أبواباً جديدة على تداعيات كبيرة قد لا تنتهي في أيام محدودة، فحجم ضحايا التغيير كان كبيراً (أكثر من 450 قتيلاً) سقطوا إبان الاحتجاجات وبعدها، بعض هؤلاء من صفوف المعارضة والبعض الآخر من قوات الأمن ومن الموالين للحكومة، وعدد قليل ينتمي إلى الأقلية ذات الجذور الهندية.
المشكلات السياسية الداخلية والخارجية للبلاد واسعة ومتشعبة، ويحاول «الرجل الأسطورة» محمد يونس قيادة السفينة نحو النجاة، لكن سنَّهُ المتقدم (84 عاماً)، ومنسوب الحراك العالي في الخليج البنغالي الاستراتيجي؛ قد لا يساعدانه في تجاوز الصعوبات الوازنة، وهذه المشكلات تختلف جوهرياً عن مشكلات الفقراء المعدومين الذين نجح يونس في مساعدة عدد كبير منهم في الخروج من البؤس، من خلال مبادرة مالية – إنسانية (بنك الفقراء) أوصلته هو أيضاً لنيل جائزة نوبل للسلام عام 2006.
من أهم خصوصيات بنغلاديش؛ موقعها الجغرافي على مساحة تزيد على 146 ألف كلم مربع، في منطقـــــة حيويـــــة في آسيا، وتركيبتهـــا الســــــكانية لا يستهان بها؛ حيث يقارب عــــدد المســـــلمين فيها 170 مليوناً يُضاف إليهم حوالي 6 ملايين من الأقليــــــة الهندوسية، وللبلاد مكانــــة سياســــية واســــتراتيجية لا يمكـــــن التقليـــــل مـــن شــــأنها على الإطــــلاق.
نجحت انتفاضة الطلاب في تغيير الصورة التقليدية التي طبعت المشهد السياسي البنغالي منذ عام 1971، وقد تضرر حزب «رابطة عوامي» الذي تتزعمه الشيخة حسينة، ولم ينجح الفريق المنافس لها تقليدياً «الحزب الوطني البنغالي» بزعامة خالدة ضياء في استثمار الحراك، وهناك شيء من الذهول ما زال يُسيطر على الوضع منذ مطلع الشهر، ولم تتمكّن الخطوة السريعة الجبارة التي قضت بتكليف محمد يونس تشكيل حكومة جديدة من استيعاب تداعيات ما جرى، لأن التشابك بين الرؤى والعصبيات ليست مسألة بسيطة في بلد كان جزءاً من باكستان قبل عام 1971، ويفصله عن الهند مسافة 1600 كلم، وهذه الأخيرة كانت ضد استقلال البلدين عنها في عام 1947.
المُشكلات البنغالية التي تواجه الحكومة الجديدة ليست مقتصرة على حل مُعضلة البطالة في صفوف الشباب، الذين يشكلون ما يزيد على 20% من عدد السكان، ولا بإيجاد تسوية للتمييز «السيسيولوجي» الذي يعطي أبناء المحاربين القدامى 30% من الوظائف العامة، لكون آبائهم شاركوا في تحرير الدولة «باكستان الشرقية» قبل ما يزيد على 75 عاماً.
هناك محفظة ثقيلة من الهموم تواجه محمد يونس، وقد يلجأ الرجل الرمز إلى تصدير جزء منها لمرحلة لاحقة، لأن نتاج الحراك الذي أخرج الشيخة حسينة من حكم دام 15 سنة؛ غير كافٍ لتأسيس وضعية مستقبلية ثابتة تكفل للبلاد استقراراً اقتصادياً وسياسياً طويل الأمد، فالثنائية الحزبية التي سيطرت على الوضع لأكثر من نصف قرن؛ ما زالت مؤثرة، وقد تُعيد الانتخابات الموعودة إنتاج نسخة جديدة عن الوضعية التي كانت قائمة، وهو ما بشّر به ابن الرئيسة المخلوعة سجيب واجد، الذي أكد أن والدته ستعود إلى المشاركة في الانتخابات عندما تقرر الحكومة الجديدة إجراءها في القريب العاجل.
وقبل أن ينجلي كامل غبار الانتفاضة التي حصلت، بدأت معالم تجاذبات دولية وإقليمية تحصل على هامش التغييرات المرتقبة في دكا، واستضافة الهند لرئيسة الوزراء السابقة الشيخة حسينة؛ لا تعني بأن نيودلهي قد حسمت خيارها ضد الانتفاضة، أو ضد حكومة محمد يونس، كما أن حكومة الرئيس ناريندرا مودي لم تتأثر كثيراً بردود الفعل الغاضبة التي استهدفت الأقلية الهندوسية في بنغلاديش من جراء استقبال الهند للرئيسة الهاربة حسينة واجد.
وعلى العكس من ذلك؛ فإن نيودلهي تراقب التداعيات في بنغلاديش، وهي ترغب في الاستفادة من إمكانية تراجع تأثير القوى المؤيدة لباكستان في الإدارة الجديدة، لاسيما منها تراجع الأحزاب التي شاركت تاريخياً في عملية الانفصال عن الهند، أو الاستقلال، وفق التوصيف الباكستاني.
الصين ليست بعيدة عما يجري، فهي هي الأخرى ترغب في تأسيس توازنات جديدة في المنطقة، تضمن فيها نفوذاً في خليج البنغال الاستراتيجي، وتحاول تحييد دكا عن التجاذبات الدولية، وضمان عدم انجرارها نحو حلف وطيد مع الولايات المتحدة الأمريكية، لأن ذلك سينعكس سلباً على النفوذ الصيني في جنوب شرق آسيا، كما قد يؤسس لمشكلة تنشأ من الاستثمار في ورقة النازحين ذوي الأصول الصينية من أقلية «الأيغور» إلى بنغلاديش، وعدد هؤلاء يناهز المليون شخص.
خصائص بنغلاديش الاستراتيجية مهمة جداً في الإقليم؛ إذ إنها تقع في منطقة حساسة للغاية، وتحيط بها ثلاث قوى كبرى تملك كل منها ترسانة نووية وازنة، نقصد بذلك الهند والصين وباكستان، ولكل من هذه الدول مصالح مختلفة، وهي تتنافس على النفوذ انطلاقاً من اعتبارات تاريخية واقتصادية وديموغرافية، ومن الصعب لأي منها التسليم باصطفاف إقليمي جديد، تكون فيه بنغلاديش جزءاً من محور وضد محور آخر، لأن ذلك سيطيح التوازنات الموروثة، وقد يزيد من حدة التنافس بين المحاور الكبرى، خصوصاً بين المجموعات الإقليمية الاقتصادية المتنافسة (آسيان وسارك).
من المؤكد أن نمو الاقتصاد في بنغلاديش لن يتراجع، وهو سجّل خطوات مهمة في السنوات الأخيرة، لا سيما من خلال توسيع مروحة صناعة النسيج، وتطوير الزراعة؛ لكن ذلك وحده لا يكفي لتأسيس مقاربة رخاء مستقبلية مستقرة في البلاد.