رأي

بلينكن يبحث عن نماذج أفريقية للتسويق

جولة بلينكن جاءت لتشير إلى أن واشنطن لديها أصدقاء يمكنها الاعتماد عليهم في غرب أفريقيا سواء في مواجهة قوة التوسع الاقتصادي الصيني أو في التصدي للنفوذ السياسي والعسكري الروسي.

كتب الحبيب الأسود في صحيفة العرب:

اختار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وجهات هادئة لجولته الأفريقية للترويج لعلاقات بلاده مع القارة السمراء لاسيما في خضم الاستعداد للانتخابات التي لا يمكن تجاهل تأثيرات أصوات الناخبين من أصول أفريقية في حسم نتائجها. قال الوزير إن “هذه الجولة هي جزء من ذلك وتركز على التزام الرئيس جو بايدن وقناعته بأن الولايات المتحدة وأفريقيا يبنيان شراكة من أجل المستقبل”، وأبرز في مستهل محادثاته في محطته الأولى في الرأس الأخضر “مستقبلنا مترابط، وازدهارنا مترابط، والأصوات الأفريقية تؤثر بشكل متزايد في الخطاب العالمي وتحفزه وتقوده”، مشددا على أن “الولايات المتحدة ملتزمة بتعميق وتعزيز وتوسيع الشراكات في جميع أنحاء أفريقيا”.

بالنسبة إلى جمهورية الرأس الأخضر يمكن أن تكون نموذجا للبلد الصغير الديمقراطي المتماهي مع ثقافة الغرب والمرتبط بعلاقات وطيدة مع واشنطن، فهي دولة جزيرة لا يتجاوز عدد سكانها 600 ألف نسمة أغلبهم يتكون من خليط أفريقي – برتغالي، وتتعاون مع الولايات المتحدة في مجال إنفاذ القانون والاعتراضات البحرية، وتوصف بأنها منارة للاستقرار وصوت قوي ومبدئي.

في أول زيارة يقوم بها وزير خارجية أميركي للبلاد، وصف بلينكن الرأس الأخضر بأنها بوابة أفريقيا، يصح هذا الوصف بالنسبة إلى القادم من وراء المحيط الأطلسي إلى القارة السمراء. خلال لقائه في بورتو دا برايا مع رئيس الوزراء أوليسيس كوريا إي سيلفا، اعتبر بلينكن الرأس الأخضر شريكا رائعا للولايات المتحدة، وتحدث عن شراكة تعتمد بشكل أساسي على تقاسم القيم، فضلا عن تقاسم المصالح. كان يدرك جيدا أنه أمام صورة قابلة للتسويق بصورة إيجابية، فقد جاءت الزيارة بعد فترة وجيزة على اعتماد منظمة الصحة العالمية الرأس الأخضر كدولة خالية من الملاريا، وبعد ترشيحها لبرنامج تمويل مؤسسة تحدي الألفية للمرة الثالثة وهي وكالة مساعدات خارجية أميركية تجديدية ومستقلّة تساعد في مقاومة الفقر على المستوى العالمي.

من بورتو دا برايا انتقل بلينكن إلى أبيدجان عاصمة جمهورية كوت ديفوار التي تحتضن هذه الأيام النسخة الرابعة والثلاثين من بطولة كأس الأمم الأفريقية، وهناك حضر مقابلة كرة القدم التي تلقّى فيها المنتخب المحلي هزيمة مدوية أمام نظيره منتخب غينيا الاستوائية بأربعة أهداف لصفر، وأشاد بالتنظيم الرائع للبطولة. كانت الصورة رائقة بما يساعد على تسويق نجاح أميركي في بناء علاقات قوية وناجعة مع الأصدقاء. بحسب الإدارة الأميركية، فإن كوت ديفوار تعد شريكا حيويا في تنفيذ إستراتيجية الرئيس بايدن لمنع الصراعات وتعزيز الاستقرار والخطة العشرية المرتبطة بها لساحل غرب أفريقيا (تشمل أيضا بنين وغانا وغينيا وتوغو). وتتوافق خطة الولايات المتحدة بشكل وثيق مع خطة التنمية الوطنية لكوت ديفوار 2021 – 2025 لبناء التماسك الاجتماعي، وتعزيز مرونة المجتمع، وتوسيع الفرص الاقتصادية، لتهيئة الظروف للسلام والاستقرار.

أعلن الوزير بلينكن أن بلاده ستقدم 45 مليون دولار من التمويل الجديد، لمساعدة كوت ديفوار وجيرانها على منع الصراعات وتعزيز الاستقرار في مواجهة التهديدات الإقليمية. وبهذا التمويل، ستكون الولايات المتحدة قد خصصت ما يقرب من 300 مليون دولار من المساعدات التي تركز على الاستقرار في منطقة غرب أفريقيا الساحلية منذ عام 2022، وهو ما يؤكد التزامها بالشراكة مع هذه المنطقة من أجل إستراتيجية منع الصراعات وتعزيز الاستقرار. 

تنظر واشنطن إلى كوت ديفوار على أنها تعيش تجربة ديمقراطية متميزة، وهي تشيد بنجاح البلد في إجراء انتخابات إقليمية وبلدية سلمية في سبتمبر، وتقف إلى جانبه لدعم إجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة في عام 2025. كما أنها تقوم باستثمارات إستراتيجية طويلة الأجل لمساعدة كوت ديفوار على معالجة الدوافع الأساسية للصراع.

كان تمرد عام 2002 بمثابة إحدى أهم نقاط التحول في سياسة كوت ديفوار التي انزلقت من حالة الاستقرار إلى الحرب الأهلية الأولى، مع الانقسام بين الجنوب الذي تسيطر عليه الحكومة والشمال الذي يسيطر عليه المتمردون، وانتهت الحرب في عام 2007 عندما تم التوقيع على اتفاق سلام بين الفصائل المتحاربة في بوركينا فاسو، لكن الوضع لم يقف عند هذا الحد، فقد أثبتت الانتخابات الرئاسية لعام 2010 أنها لحظة حاسمة أخرى في التطور السياسي في البلاد، وأعاد التاريخ نفسه عندما رفض الرئيس الحالي لوران غباغبو الاعتراف بانتصار زعيم المعارضة الحسن واتارا، وأدى ذلك إلى حرب أهلية ثانية استمرت من 28 نوفمبر 2010 إلى 11 أبريل 2011، ولم تنته إلا بعد أن أدى التدخل الدولي إلى اعتقال غباغبو، وإعلان فوز واتارا.

 تبنى واتارا سياسة طي صفحة الماضي، بما في ذلك إنشاء وزارة للمصالحة الوطنية وتعزيز الحوار بين المعارضين السياسيين. وقد تم الاحتفاء به لجهوده من أجل الوحدة الوطنية واستعادة الاستقرار في بلد يعاني من العنف السياسي والاضطرابات. وأعيد انتخاب واتارا عام 2020 في انتخابات شابها بعض أعمال العنف.

مع ذلك، يعدّ استفتاء مارس 2021، والذي شهد موافقة ساحقة على دستور جديد، نقطة تحول مهمة في التطور السياسي للبلد. ومن المتوقع أن تؤدي الإصلاحات إلى تعزيز الديمقراطية وزيادة المشاركة السياسية في البلاد.

في أبيدجان، التقى الوزير بلينكن بالرئيس الحسن واتارا وكبار أعضاء حكومته لمناقشة الأولويات المشتركة لتعزيز الديمقراطية، وتوسيع النمو الاقتصادي والتجارة، وتحسين الأمن في كوت ديفوار والمنطقة، بالإضافة إلى برامج النهوض بالمناخ والغذاء والأمن والصحة. ويرتبط البلدان بشراكة مهمة أمنيا وعسكريا في مواجهة الإرهاب والتطرف، وتقدّر واشنطن نجاح أبيدجان في تجنب أي هجومات دامية خلال العامين الماضيين، وهو ما أرجعته دراسة أجرتها مجموعة الأزمات الدولية العام الماضي إلى اتباع نهج مزدوج في عهد واتارا يتمثل في نشر القوات بالقرب من الحدود مع مالي وبوركينا فاسو، ولكن أيضا الاستثمار في التنمية الاقتصادية في شمال البلاد.

بالنسبة إلى نيجيريا فالصورة لا تختلف كثيرا، والولايات المتحدة تراهن على الدولة الأفريقية الكبرى في الكثير من الملفات الإستراتيجية كمكافحة الإرهاب والتطرف والعمل على تكريس الأمن والاستقرار ونشر الديمقراطية والتعددية والتصدي للمشاريع التوسعية سواء كانت صينية أو روسية. بل إن الخبراء يتحدثون عن اعتماد واشنطن على أبوجا كمركز أساس لإدارة سياساتها في دول الساحل وجنوب الصحراء، وهناك من يشيرون بكثير من الثقة إلى أن نيجيريا الناطقة بالإنجليزية وكوت ديفوار الناطقة بالفرنسية مثّلتا سندا كبيرا للولايات المتحدة في غرب أفريقيا وقدمتا خدمات مهمة لمصالحها، وقامتا إلى جانب كينيا بشرق أفريقيا بالتصويت في الأمم المتحدة عام 2022 لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.

هناك كذلك أنغولا، نموذج آخر تقدمه الولايات المتحدة عن تأثيرها في أفريقيا. نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” تقريرا عن دور واشنطن في عرقلة مشروع صيني لسكك الحديد في الكونغو لتأكيد فشل الشركات الصينية في المنطقة. تقول الصحيفة إنه، وبعد مغادرة المقاولين الصينيين، تبين حجم الأخطاء الكبيرة في المشروع، حيث تعطلت المحطات، وتوقفت أنظمة السلامة، وتعطلت خوادم الكمبيوتر، وانقطعت خطوط الهاتف، وفقا لشركة القطارات الحكومية. كان ذلك كافيا لإقناع الأنغوليين بضرورة البحث عن جهة لتنفيذ مشروع خط سكة حديد يبلغ طوله حوالي 1200 كيلومتر ويربط ميناء لوبيتو الأنغولي مع ساحل المحيط الأطلسي بالكونغو. وفي أكتوبر الفائت وقعت الولايات المتحدة اتفاقا مع أنغولا وزامبيا والاتحاد الأوروبي ووكالات التمويل الدولية لدراسة جدوى تشغيل خطوط سكك حديد جديدة من أنغولا إلى مناطق تعدين النحاس في زامبيا.

وفي نوفمبر الماضي، أشار الرئيس بايدن خلال اجتماعه في البيت الأبيض مع الرئيس الأنغولي جواو لورينسو، إلى أن “هذا المشروع الأول من نوعه هو أكبر استثمار أميركي في السكك الحديد في أفريقيا على الإطلاق، وهو استثمار سيخلق فرص عمل ويربط الأسواق للأجيال القادمة”. من المنتظر أن تقدم واشنطن لأنغولا قرضا بـ250 مليون دولار للتأكد من نجاح مشروع لوبيتو كوريدور الذي تبلغ قيمته 1.7 مليار دولار. في ديسمبر الماضي، وقع اتحاد السكك الحديد “أول أميركن ريل غروب”، ومقره تكساس، مذكرة تفاهم مع الحكومة الأنغولية لتطوير طريق قطار مواز إلى الكونغو يمر عبر شمال أنغولا. وقدرت وزارة النقل الأنغولية حجم الاستثمار المحتمل بمبلغ 4.5 مليار دولار.

تعتبر الدولة الواقعة على الساحل الغربي لأفريقيا الجنوبية، من أكثر دول القارة ثراء بالمعادن والنفط ويعد اقتصادها أحد أسرع الاقتصادات نموا في العالم، وذلك منذ نهاية الحروب الأهلية على وجه الخصوص. وبعد أن كانت دولة شيوعية حليفة للاتحاد السوفياتي وكوبا وكوريا الشمالية وتفككت في العام 1992، تحولت إلى حليف لواشنطن، ونجحت في القيام بدور إيجابي في محيطها، ولعبت دورا محوريا في التوسط لوضع حد للاضطرابات في جمهورية الكونغو المجاورة. يقول تولينابو موشينغي، سفير الولايات المتحدة في لواندا، “ما أطلبه من الأنغوليين هو أن يمنحوني الفرصة لتقديم النموذج الأميركي، وأن يمنحوني الفرصة للتواجد على الطاولة والمنافسة.. أعرف أن نموذجنا سيكون جذابا للأنغوليين في نهاية المطاف. أعلم أنهم سيختاروننا”. إلى حد الآن نجح السفير في مهمته، وأكدت زيارة بلينكن ذلك.

جاءت جولة بلينكن لتشير إلى أن واشنطن لديها أصدقاء يمكنها الاعتماد عليهم في غرب أفريقيا، سواء في مواجهة قوة التوسع الاقتصادي الصيني أو في التصدي للنفوذ السياسي والعسكري الروسي، وكذلك في الوقوف في وجه الأطراف التي تحاول أن تستقل بموقفها بعيدا كما فعلت وتفعل جنوب أفريقيا بانخراطها في “بريكس” أو بمناهضتها لإسرائيل عبر رفعها دعوى قضائية لمقاضاتها أمام محكمة الجنايات الدولية بتهمة التورط في جريمة الإبادة الجماعية.

كذلك تشير الزيارة إلى أن الولايات المتحدة قانعة بخارطة علاقاتها الحالية، وتعمل على توسيعها عبر تقديم نماذج تعتقد أنها ناجحة باعتمادها على الديمقراطية والتنمية. إدارة بايدن تريد تسويق تلك النماذج داخليا لإقناع الناخب الأميركي بأنها لا تزال تحافظ على مكانة قوية ومؤثرة في القارة الأفريقية وبالمقاييس التي تعتمدها وتؤمن بها وتدافع عنها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى