بلومبرج: بوتين يشعل ضد الغرب حربا ثقافية لا يملك أسلحتها
في الوقت الذي تتراجع فيه القوات المسلحة الروسية بشكل فوضوي أمام القوات الأوكرانية في شرق أوكرانيا، يفتح الرئيس الروسي جبهة جديدة مع معركته ضد الغرب وهي “معركة من أجل التفوق الثقافي”. فالرئيس الروسي قال إن أول أهداف سياسته الخارجية الآن هو قيادة هجوم عالمي مضاد ضد “محاولات عدد من الدول فرض أفكار الليبرالية الجديدة” على العالم.
ويقول بوتين إن بلاده هي الوحيدة المؤهلة لقيادة هذا الهجوم المضاد لأنها تستطيع أن تقدم للعالم بديلا لليبرالية، وذلك لأن “التاريخ الممتد لقرون يمنح روسيا إرثا ثقافيا غنيا وإمكانيات روحية تضعها في مكانة تتيح لها نشر القيم الأخلاقية والدينية الروسية التقليدية بنجاح”.
وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرج للأنباء قال الكاتب الأمريكي بوبي جوش إن أي قارئ للتاريخ الروسي الحديث سيرى خطاب بوتين مألوفا تماما. فمنذ نحو 100 عام، ردد قادة الاتحاد السوفيتي الجديد في ذلك الوقت إدعاءات مماثلة حول عالم تقوده موسكو لمواجهة الليبرالية. وكشيوعيين صور القادة السوفييت هذا الصراع في إطار اقتصادي واجتماعي، لكنهم تباهوا بإلحادهم وبالتالي كان من الصعب عليهم الحديث عن القيم الدينية الروسية. ولم تكن الحالة أقل من “حرب من أجل التفوق الثقافي” في ذلك الوقت أيضا.
ويرى بوبي جوش الأمريكي من أصل هندي أول رئيس تحرير غير أمريكي للنسخة الدولية من مجلة تايم الأمريكية أن بوتين الذي يميل إلى النظر للحقبة السوفيتية من خلال نظارة وردية، يبدو أنه نسي السبب الرئيس وراء خسارة الاتحاد السوفيتي السابق للمعركة الثقافية، وهو أنه لم يكن يملك أسلحتها الكافية. وكما يقول الكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد أو شكسبير أو مارك توين “لا تخوض معركة التفوق الثقافي، عندما لا تكون مسلحا لها”.
ad
ويقول جوش إنه نشأ في الهند في سبعينيات القرن العشرين، وكان يشهد المنافسة ويتذكر كيف ولماذا خسرها الاتحاد السوفيتي ، رغم أن الساحة كانت تميل لصالحه حيث كانت الهند الرسمية إلى جانب الاتحاد السوفيتي رغم وجودها الرسمي ضمن حركة عدم الانحياز. ففي ذلك الوقت أيد الاتحاد السوفيتي الهند في صراعها ضد باكستان وزودها بالسلاح والخبرات الصناعية والمعاملة التجارية التفضيلية، في حين كانت الولايات المتحدة حليفة لباكستان. وكان يتم تشجيع الهنود على النظر إلى الغرب وبخاصة الولايات المتحدة بتشكك وربما بعدائية، في حين كانوا ينظرون إلى الروس باعتبارهم أصدقاء.
كما كان الهنود يتعرضون لحملات إعلامية مناهضة للمنتجات الغربية، مع فرض قيود على الاستيراد، بما يجعل أغلب العلامات التجارية الأمريكية خارج متناول الهنود، وبالتالي لم يكن ضعف قدرات السوفيت في هذا المجال، عقبة كبيرة، كما كان يجب أن يكون. على سبيل المثال لم يكن في مقدور الهنود المقارنة بين سيارات فورد وجنرال موتورز الأمريكية وسيارات لادا وفولجا السوفيتية.
و يضيف جوش أنه على الرغم من ذلك، كان من الصعب على الصعيد الثقافي تجاهل قصور القدرات السوفيتية. فالهنود وبخاصة الشبان مثله في ذلك الوقت، كانوا يقرأون الأداب ويستمعون للموسيقي ويشاهدون الأفلام الغربية.
ورغم أن موسكو كانت ترسل كميات ضخمة من الكتب إلى الهند بعد ترجمتها إلى اللغات الهندية وتبيعها بأسعار مدعومة للغاية، فإنها لم تحقق أي مكاسب على هذا الصعيد. فلم يكن في الثقافة السوفيتية ما يعادل شخصيات هارد بويز أو بيتي وفرونيكا الخيالية الأمريكية. وحتى هؤلاء الذين كانوا يميلون إلى الآداب الجادة وجدوا تدهورا في الإنتاج الأدبي الروسي بعد تشيكوف وبوشكين، في حين كانوا يقرأون للكتاب السوفييت المحظورين في موسكو مثل سولخسنتين.
ويقول جوش إن كل هذ ساعد الغرب وبخاصة الولايات المتحدة في الانفراد بالقوة الناعمة في الهند والتي تفوقت على طائرات ميج 21 والتكنولوجيا الصناعية السوفيتية. وإنه في مسقط رأسه بمدينة فيسخاباتنام الهندية لاحظ ومعه رفاقه أن المهندسين السوفيت الذين جاءوا إلى المدينة للعمل في مصنع محلي للصلب كانوا متحمسين لموسيقى الروك والملابس الجينز الأمريكية.
وما اشبه الليلة بالبارحة. فالرئيس بوتين الذي أعلن حربا ثقافية على الغرب يفتقد إلى المنتجات الثقافية القادرة على منافسة المنتجات الغربية وبخاصة الأمريكية كما كان الحال في الحقبة السوفيتية. ففي عالم الترفيه غير الناطق باللغة الإنجليزية لا نرى مسلسلات تلفزيونية روسية شهيرة، ولا مطربي بوب روس. كما أن قناة آر.تي التلفزيونية الروسية التي تبث على مدار الساعة لتتحدث عن نظريات المؤامرة وتنشر الأكاذيب- على حد قوله- لا تستطيع جذب مشاهدين من خارج روسيا.
ليس هذا فحسب، بل إن بوتين يفتقد لتلك الرؤية الاقتصادية الاجتماعية التي كانت لدى القادة السوفيت وشكلت أساسا مقبولا لجذب شرائح من شعوب العالم إلى فلك السوفيت. فبعيدا عن الأسلحة، لا توجد منتجات روسية أخرى يمكن تسويقها في العالم. ليس هذا فحسب بل إن الخسائر التي تكبدتها القوات الروسية في أوكرانيا أمام السلاح الأمريكي والأوروبي شوه سمعة السلاح الروسي أيضا. ورغم أن الهنود سعداء اليوم بحصولهم على النفط الخام الروسي بأسعار مخفضة نتيجة العقوبات الغربية على موسكو، فإن الهنود أكثر ميلا للغرب من هؤلاء الذين نشأوا في عقد السبعينيات في زمن الحرب الباردة. ثم جاء الغزو الروسي لأوكرانيا لكي يبدد قدرا كبيرا من القوة الناعمة المحدودة لروسيا لدى الدول المجاورة بفضل اللغة والتاريخ المشترك. كما جاء هذا الغزو لكي يدل على أن الحديث الروسي عن القيم الأخلاقية مجرد كلام أجوف. لذلك فإن بوتين ليس فقط غير قادر على الفوز في حرب ثقافية ضد الغرب، وإنما غير قادر على الفوز بها في الفناء الخلفي لبلاده. فروسيا في عهد بوتين لا تمتلك حتى القوة الناعمة التي يمثلها مشروب الفرابتشينو الأمريكي الشهير.