خاصأبرزرأي

بعد “نصر” ترامب في الناتو: أي مكانة لأوروبا في ميزان القوى العالمية؟

راوية المصري_ خاص “رأي سياسي”:

مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، دخلت العلاقات عبر الأطلسي مرحلة غير مسبوقة من التوتر والشكوك. ففي قمة الناتو الأخيرة ببروكسل (20 يونيو 2025)، بدا الرئيس الأمريكي وكأنه يعلن فوزًا شخصيًا داخل الحلف: إلزام الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها الدفاعي، أو المخاطرة بخسارة المظلة الأمنية الأمريكية التي طالما اعتُبرت حجر الزاوية في أمن القارة.
قال ترامب في خطابه أمام قادة الحلف
“ادفعوا أو دافعوا عن أنفسكم. لم تعد أمريكا مسؤولة عن الدفاع عن دول لا تدفع ما عليها… إما أن تلتزموا، أو تتحملوا العواقب .”
هذه الرسالة أثارت قلقًا واسعًا في العواصم الأوروبية، خصوصًا بعد تلميحه إلى أن المادة 5 من ميثاق الناتو – التي تنص على الرد الجماعي في حال تعرّض أي دولة عضو لهجوم – لن تُعتبر ملزمة ما لم “تُحترم العدالة المالية”، على حد تعبيره.
أمام هذا التحدي، تجد أوروبا نفسها في مفترق طرق استراتيجي بين الحماية الأمريكية واستقلال القرار.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صرّح بعد القمة: علينا أن نستفيق… لا يمكن أن نبقى رهائن لمزاج سياسي في البيت الأبيض كل أربع سنوات.”
ودعا ماكرون إلى تسريع إنشاء “قيادة عمليات أوروبية مستقلة”، ضمن مشروع دفاعي مشترك مع ألمانيا ودول أخرى، يُعدّ نواةً محتملة لما يُعرف إعلاميًا بـ”الجيش الأوروبي المصغّر”.
لكن هذا الطموح يواجه عراقيل واقعية:
بولندا ودول البلطيق (ليتوانيا، إستونيا، لاتفيا) أبدت معارضة شديدة لأي خطوة تُضعف العلاقة مع واشنطن، ووقّعت مؤخرًا اتفاقًا مباشرًا مع وزارة الدفاع الأمريكية، يُعرف بـ”اتفاق الردع الشرقي”، يعزز التواجد العسكري الأمريكي الثنائي خارج إطار الناتو.

ألمانيا، رغم قوتها الاقتصادية، لا تزال مترددة في لعب أدوار عسكرية مباشرة، بينما تعاني دول جنوب أوروبا (كإيطاليا، اليونان، وإسبانيا) من أزمات مالية تجعل من الإنفاق الدفاعي أولوية متأخرة مقارنة بأزمات الهجرة والطاقة.

في خضم هذا المشهد، تواجه أوروبا لحظة مفصلية. ميزان قوى عالمي جديد: هل تتقلص مكانة أوروبا؟
فمع صعود الصين، واستمرار روسيا في سياساتها التوسعية في أوكرانيا والقوقاز، وانكفاء أمريكا نحو الداخل، تظهر الفجوة بين القوة الاقتصادية الأوروبية وغياب نفوذ عسكري أو دبلوماسي حقيقي.
في الملفات الكبرى من غزة إلى أوكرانيا إلى منطقة الساحل الأفريقي تموّل أوروبا الجهود الدولية، لكنها لا تصوغ القرارات الحاسمة.
وقد صرّحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مؤخرًا:
“الاتحاد الأوروبي قوة اقتصادية، لكنه بحاجة ليكون فاعلًا سياسيًا وعسكريًا إذا أراد أن يبقى طرفًا في معادلة النفوذ العالمي.”
المسألة لا تتعلق فقط بإعادة توزيع أعباء مالية، بل بإعادة تعريف دور أوروبا العالمي: أزمة الناتو هي أيضًا أزمة هوية أوروبية؟ هل تستطيع أن تكون قوة استراتيجية حقيقية؟
هل هي مستعدة للتفكير ككتلة سياسية مستقلة، وليس فقط كمجموعة اقتصادية؟
حتى الآن، لا توجد إجابة موحدة. وربما سيُحدّد موقف واشنطن القادم، ومدى استعداد أوروبا للمخاطرة السياسية والمالية، مستقبل هذه العلاقة المحورية.

ما بعد “نصر” ترامب في الناتو ليس مجرد لحظة عابرة، بل منعطف حقيقي.
أوروبا تقف الآن أمام خيارين:
أن تبقى تابعة أمنيًا للولايات المتحدة، وتتقبل قراراتها المتقلبة؟
أو أن تبني مشروعًا دفاعيًا متماسكًا، ولو تدريجيًا، يعكس نضجها السياسي واستقلالها الاستراتيجي. وفي الحالتين، يبقى الامتحان الأكبر هو:
هل تستطيع أوروبا أن تتحدث وتتصرف كقوة موحدة، أم ستظل أسيرة التناقضات الجغرافية والسياسية التي تعرقل كل مشروع سيادي حقيقي؟

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى