اقتصاد ومال

بعد الموانئ والمطارات.. الإمارات تقود تجارة «الكوريدورات» حول العالم

دفعت التوترات الجيوسياسية في أقاليم جغرافية معينة، والظواهر المناخية المتطرفة في العالم (النينو)، الى تسريع التحول نحو طرق برية أكثر سرعة، وعبر ممرات تجارية، أو كما اصطلح على تسميتها بـ«الكوريدورات»، والتي تربط المحيطات والبحار بأهم طرق التجارة ومكامنها الرئيسية.

قرأت دولة الإمارات العربية المتحدة، تلك المتغيرات والمستجدات الطارئة على سلاسل الإمداد العالمية وطرق التجارة في الجهات الأربع، لتوقع اتفاقيات وشراكات تجارية مع دول محددة، تقع جغرافياً ضمن أهم خطوط الإمداد اللوجستية، والعابرة للقارات، ولعل أهمها الجزء الشرقي من العالم وإفريقيا وأوروبا.

على صعيد التوترات الجيوسياسية، عصفت أزمة باب المندب والبحر الأحمر، التي ما زالت تلقي بظلالها على القطاع حتى اليوم، بطرق وسلاسل الإمداد والشحن البحرية من الشرق نحو أوروبا، وخصوصاً عبر قناة السويس وخليج عدن، ما دفع بشركات الملاحة والشحن الكبرى لاعتماد طريق رأس الرجاء الصالح قسراً ورغماً عنها، ودفع بأسعار وتكاليف الشحن البحري للارتفاع الجنوني، مع بطء الإمدادات والمنتجات ونقل السلع للمستهلك النهائي، ما سيضاعف من الأسعار النهائية.

غرفة تحكم في ميناء خليفة في أبوظبي
أضف إلى ذلك، الأزمة الروسية – الأوكرانية المستمرة، منذ فبراير/ شباط 2022، حيث تسببت بإحداث أزمة حبوب وطاقة كبرى على المستوى العالمي، وخاصة لسلع رئيسية ومهمة كالقمح والأرز والزيوت النباتية وارتفاع تكاليف الطاقة، على اعتبار أن البحر الأسود، والذي تطل عليه كل من روسيا وأوكرانيا المصدران الأهم لمنتجات الحبوب، مروراً بالمضايق التركية الواصلة بين البحرين الأسود والأبيض المتوسط نقطة محورية في سلاسل الإمداد والتوريد.

وخلال السنوات القليلة الماضية، ازدادت وتيرة الظواهر المناخية المتطرفة في العالم، ملقية بظلالها على مفاصل الاقتصاد الأوسع، وفي مقدمتها طرق الشحن الرئيسية. واليوم، تفاقم ظاهرة «النينو» الأمور سوءاً.

ففي بنما المنكوبة بالجفاف، دفع انخفاض مستويات المياه الدولية الواقعة في أمريكا الوسطى، مؤخراً إلى تقليل عدد السفن التي تمر عبر قناتها «بالغة الأهمية» إلى 32 سفينة في اليوم فقط. ما تسبب في مأزق للناقلات البحرية التي تكدست في انتظار عبور الممر المائي الاستراتيجي، الذي عادة ما يختصر وقت السفر بين المحيطين الأطلسي والهادي.

منهج عملي
ولتفادي تلك التحديات التي خلقت ضغوطاً كبيرة على سلاسل الإمداد والتجارة العالمية، وساهمت في ارتفاع تكاليف الشحن والنقل وخاصة البحري منه، وزيادة الضغوط على الشحن الجوي والبري، كان من الضرورة أن تكون البدائل؛ أكثر واقعية وأكثر سلاسة وسرعة في إيصال المنتجات لوجهاتها الأخيرة.

وفي هذا الشأن؛ نجحت دولة الإمارات، بفضل منظومتها القوية من بنية تحتية متطورة من موانئ بحرية ومطارات وشبكة طرق برية وسكة حديد حديثة، وخدمات ذكية وتكنولوجية فائقة السرعة، وسلاسة في إنجاز للمعاملات الجمركية والتجارية؛- نجحت في قيادة العالم لتبني منهج حديث -الممرات التجارية (الكوريدورات)- والتي تربط مكامن الصناعة والتجارة والغذاء والدواء عبر البحار والمحيطات والمضايق الرئيسية، مروراً بطرق برية عبر أهم خطوط الشحن والإمداد.

وكان من الضروري جداً، أن تسخر دولة الإمارات إمكانياتها ومقدراتها، التي تضاهي بها دول العالم، من طرق سريعة وعابرة للحدود، وموانئ هي الأهم والأسرع نمواً وتطوراً، وكذلك مطارات هي الأعلى فخامة وقدرة على التعامل مع المتغيرات والتحديات والأزمات العالمية، ولعل آخرها، هو المثال الإماراتي الذي أشادت به دول العالم، في تجاوز تحديات أزمة «كوفيد.19»، ونجاحها في سرعة نقل اللقاحات والدواء، وضخها في شرايين تجارتها ومقدراتها للعالم.

«ممر المحيطين»
في ديسمبر/ كانون الأول من 2023، شهد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، ولولا دا سيلفا، رئيس جمهورية البرازيل وسانتياغو بينيا، رئيس جمهورية الباراجواي، توقيع إعلان مشترك للتعاون بشأن «ممر المحيطين»، ضمن فعاليات مؤتمر «كوب 28»، الذي عقد في مدينة إكسبو دبي.

ويهدف المشروع بين دولة الإمارات والبرازيل والبارغواي والأرجنتين وتشيلي إلى تعزيز التكامل الإقليمي والكفاءة اللوجستية، بجانب استقطاب الاستثمارات والفرص الاستثمارية إلى أمريكا اللاتينية عن طريق هذا الممر، ودفع التجارة الإقليمية إلى آفاق أوسع.

ويسهم المشروع في تعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية في المنطقة، من خلال ربط المحيط الأطلسي والمحيط الهادي عبر ميناء كامبو غراندي البرازيلي الممتد إلى الباراغواي وشمال الأرجنتين، ليصل إلى ميناء أنتوفاغاستا في تشيلي بعد 2400 كيلومتر.

يسهم المشروع أيضاً في زيادة نسبة تدفق المنتجات الزراعية إلى موانئ المحيط الهادئ، وتعزيز التجارة الإقليمية وقطاع السياحة في المنطقة، إلى جانب خفض تكاليف نقل الحاويات، ما يعزز تنويع الأسواق الإقليمية، ويوسع الفرص التجارية مع آسيا ومناطق أخرى حول العالم.

وفي سبتمبر/ أيلول الفائت، شهد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، الإعلان عن إنشاء «ممر» اقتصادي يربط بين الهند ومنطقة الشرق الأوسط وأوروبا، وذلك في إطار زيارة قام بها سموه لحضور قمة مجموعة العشرين، التي استضافتها الهند مؤخراً، وشاركت فيها دولة الإمارات ضيف شرف.

وأكدت دولة الإمارات والسعودية والهند والولايات المتحدة ودول أعضاء في الاتحاد الأوروبي بموجب مذكرة تفاهم تطلعها إلى العمل معاً لإنشاء ممر يربط الهند بالشرق الأوسط، ومن ثم أوروبا، والذي سيحفز التنمية الاقتصادية، من خلال تعزيز الربط والتكامل الاقتصادي بين هذه المناطق.

يتألف المشروع من ممرين منفصلين هما «الممر الشرقي»، الذي يربط الهند مع الخليج العربي، و«الممر الشمالي»، الذي يربط الخليج بأوروبا.

وتشمل الممرات؛ سكة حديد ستشكل بعد إنشائها شبكة عابرة للحدود من السفن إلى السكك الحديدية لتكملة طرق النقل البرية والبحرية القائمة، لتمكين مرور السلع والخدمات.

سيعمل المشاركون على تقييم إمكانية تصدير الكهرباء والهيدروجين النظيف، لتعزيز سلاسل الإمداد الإقليمية كونه جزءاً من الجهود المشتركة، لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ودمج جوانب الحفاظ على البيئة في المبادرة.

ويعكس تعاون دولة الإمارات في هذه المبادرة جهودها، لتعزيز شراكاتها الدولية والإسهام في تحقيق مستقبل مستدام، ودعماً لهذه المبادرة تتطلع الدول المعنية بكل ممر إلى العمل الجماعي، لتنفيذ المبادرة وإنشاء كيانات تنسيقية لمعالجة مجموعة كاملة من المعايير التقنية والتصميمية والتمويلية والقانونية والتنظيمية ذات الصلة.

ممر افتراضي
وفي مارس/ آذار من العام الجاري 2024، وقّعت مجموعة «موانئ أبوظبي» مذكرة تفاهم مع الإدارة العامة للجمارك في الكويت، بهدف إنشاء ممر تجاري افتراضي بين دولتي الإمارات والكويت، تحت إشراف دائرة التنمية الاقتصادية في أبوظبي.

تنص المذكرة على قيام «بوابة المقطع»، الذراع الرقمية لمجموعة «موانئ أبوظبي»، ومن خلال المنصة المتقدمة للتجارة والخدمات اللوجستية (أطلب)، بتطوير الممر التجاري الافتراضي، تحت إشراف دائرة التنمية الاقتصادية في أبوظبي.

وسيتم بموجبها إرساء سياسات وإجراءات وأنظمة جديدة ومتكاملة، من شأنها دعم الممر التجاري الافتراضي، الذي يسهم في تبسيط وتسهيل التجارة عبر الحدود.

ويتيح تأسيس هذا الممر التجاري الافتراضي الجديد، وتطبيق الحلول المرتبطة به، إمكانات متميزة لجهات القيد في البلدين، تضمن لها الحصول على المعلومات المتعلقة بالشحنات الدولية والبضائع قبل وصولها، ما يسهل عمليات التخليص المسبق للشحنات، وتحقيق وفورات كبيرة في الوقت والكلفة اللازمين لإتمامها، كما توفر مذكرة التفاهم العديد من المزايا، التي تسرع عمليات شحن البضائع القابلة للتلف، وتقليص المدة الزمنية اللازمة للانتظار عبر المنافذ الحدودية في الجهتين.

«طريق التنمية»
كما استعرضت دولة الإمارات مع الجانب العراقي في مارس/ آذار الماضي، مسار تفعيل الشراكة والتعاون في مشاريع استراتيجية تشمل نظام النقل البري للعبور والضمان الدولي المعروف عالمياً بالترانزيت «التير-TIR»، ومشروع «طريق التنمية» الواعد، بما يسهم في ربط العراق بدول الخليج وأوروبا.

ووقعت «موانئ أبوظبي»، في وقت سابق اتفاقية مبدئية مع الشركة العامة للموانئ في العراق، بهدف استطلاع الفرص الاستثمارية، وإجراء دراسات الجدوى اللازمة لتنفيذ بنود الاتفاقية، وعلى رأسها دراسة الاستثمار والإدارة والتشغيل في الموانئ والمناطق الاقتصادية، وغيرها من البنى التحتية التابعة للشركة العامة للموانئ في العراق، بالإضافة إلى تطوير البنى التحتية مثل شبكات الطرق والسكك الحديدية.

مطارات حديثة
ونتيجة لتلك المتغيرات المستجدة على أهم خطوط الإمداد والتجارة، عبر البحار والمحيطات والمضايق، دفع ذلك صناع قطاع الشحن والنقل والإمدادات، لاعتماد خيارات أخرى على غرار الشحن الجوي، حتى وإن كانت إحدى نتائجه، هو زيادة متصاعدة في أسعار الشحن عبر الطائرات، مقيساً بالوزن.

وفي الأسابيع الأخيرة، لجأت شركات الشحن أكثر لاستخدام الشحن الجوي، حيث بدأ بعض العملاء في شحن البضائع كلياً أو جزئياً، عن طريق الجو لتجنب التأخير الحاصل في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

ووفقاً لبيانات الاتحاد الدولي للنقل الجوي (إياتا)، يمثل الشحن الجوي – الأعلى تكلفة من الشحن البحري -؛ أقل من واحد في المئة من التجارة العالمية من حيث الحجم.

وبالعودة للبنية التحتية التي تتميز بها دولة الإمارات، وجزء منها شبكة مطاراتها العالمية، ومدارجها العريضة والصلبة، ومستودعات التخزين، التي تمتلكها بالقرب من المطارات، وكذلك المدن الاقتصادية الخاصة بالشحن واللوجستيات، على غرار مدينة «دبي الجنوب»، والمناطق الشاسعة والساحات الكبيرة المخصصة للتخزين في أبوظبي والشارقة ورأس الخيمة، والفجيرة؛ كل تلك المزايا والخصائص، تصب في رصيد الإمارات، لأن تقود المتغيرات على مشهد التجارة العالمية في السنوات القليلة القادمة، وهي التي تدعو إلى ضرورة تبني التجارة متعددة الأطراف، وكل ما أوجز ذكره سابقاً، تؤكد صوابية توسع الإمارات في بنيتها التحتية المتنوعة، هدف وطموح الدولة في أن تكون ضمن أهم اللاعبين الكبار على خريطة التجارة العالمية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى