رأي

“بريكس” واستثناء الجزائر: السؤال الكبير.

كتبت رزان شوامرة في العربي الجديد.

عقدت مجموعة بريكس قمّتها السنوية الخامسة عشرة في جوهانسبرغ في الـ 22 من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، وانتهت بإعلان رئيسها سيريل رامافوزا قرارًا بتوسيع عضوية المجموعة، قائلًا “قرّرنا دعوة كل من الأرجنتين، مصر، إثيوبيا، إيران، السعودية، والإمارات، لتصبح أعضاء كاملي العضوية في مجموعة بريكس، وستدخل العضوية حيز التنفيذ اعتبارًا من 1 يناير/ كانون الثاني 2024”. تحاول هذه المقاربة فهم نتائج القمة بالغة الأهمية، من خلال نقاش أبرز التساؤلات المثارة مثل: ما هي أهمية مجموعة بريكس؟ وهل للصين الدور الأكبر في التأثير على سياسات المجموعة؟ وما هي معايير انضمام الدول للمجموعة؟ ولماذا جرى رفض طلب الجزائر على وجه الخصوص، وخصوصا بعد زيارة الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، الصين، وإعلان الأخيرة وروسيا عن رغبتهما في دعم ملف الانضمام الجزائري؟

النشأة والأهمية
“بريكس” أحد المشاريع الدولية الاقتصادية المتعدّدة التي أنشأتها الصين جزءا من سياستها لتعزيز صعودها ونفوذها عالميًا. وهو تجمع أنشئ عام 2006، وضم في البداية الصين وروسيا والهند والبرازيل، وسميت مجموعة بريك، قبل انضمام جنوب أفريقيا لها عام 2011 ليصبح اسمها “بريكس”. جاءت أهمية المجموعة الاقتصادية في امتلاك أربع دول منها احتياطات كبيرة من العملة الأجنبية. وهي من أكبر 10 دول تحتفظ باحتياطات دولار وتبلغ نحو 40% من مجموع احتياطات العالم، وتمتلك الصين وحدها 2.4 تريليون دولار. ويشكّل عدد سكان مجموعة بريكس ما يقارب الـ 40% من سكان العالم. وتتمثل الأهمية الثانية في اعتمادها على ثلاث ركائز للتعاون، السياسي والأمني، المالي والاقتصادي، الثقافي والشعبي؛ أي أنها ليست منظمّة اقتصادية حصرًا.
تكمن الأهمية الثانية في منافسة نظام الهيمنة الأميركي، فهي تُمثل مجتمعة مع البنك الآسيوي، والبنك الآسيوي للتنمية والإعمار، ومنظمة بورصة شنغهاي، وطريق الحرير، نظامًا بديلًا لنظام بريتن وودز الغربي. وتمثل أيضًا تحدّيًا لهيمنة الدولار، فأحيانًا يتم استخدام العملات المحلية ونظام المقايضة في التبادلات التجارية بين الأعضاء. إضافة إلى ذلك، منافسة واشنطن في محيطها الحيوي نفسه عبر انضمام واحدة من أهم دول جنوب جزيرة غرب العالم كمؤسس للمجموعة، البرازيل، وانضمام الأرجنيتن أخيرا، ما يعني اختراقا اقتصاديا لمبدأ مونرو الأميركي، والذي يعتبر القارّة الأميركية مساحة نفوذ أميركية خالصة، من المنافس الأخطر على مكانة أميركا الحالية، الصين.

الأمل بدون وعي يبقى أحلام يقظة، وكثير مما ينشر عن الصين عربيا حمل ويحمل طابعا وهميا ونقاشات رغبوية

اجتمعت الدول المؤسّسة على أن النظام الاقتصادي الدولي “غير عادل”، ويجب إصلاحه وتغييره. وأشارت المقدّمة التعريفية الرسمية لمجموعة بريكس إلى أن القيمة التأسيسية للمجموعة هي الالتزام المشترك بإعادة هيكلة البنية السياسية والاقتصادية والمالية العالمية، لتكون عادلة ومتوازنة وتمثيلية. وتضمن البيان المشترك بين الصين وجنوب أفريقيا الذي صدر خلال القمة أخيرا اتفاق الجانبين على أن تعاون “بريكس” ضروري لتحقيق نظام عالمي أكثر إنصافًا. وقالت رئيسة أعمال المجموعة، بوسي مابوزا، في أثناء القمّة، إن “بريكس” لا تخدم فقط مصالح الدول الأعضاء، بل “تعمل أيضًا كمحفز لدفع التغيير الإقتصادي التصاعدي في جميع أنحاء العالم”. 
أما الرئيس الصيني، شي جين بينغ، فقد أشار بشكل مكثف إلى السياسات الأميركية في مداخلاته في أثناء القمة، واصفًا إياها بالتنمّر، قائلاً “هل علينا أن نعمل معاً للحفاظ على السلام والاستقرار، أم مجرّد السير نائمين نحو هاوية حربٍ باردةٍ جديدة؟ هل علينا أن نسمح لأعمال الهيمنة والتنمّر بأن تُلقي بنا في حالة من الاكتئاب؟ السلام الدائم و”الأمن العالمي” والرخاء المشترك هو منطق التقدّم التاريخي و”اتجاه عصرنا”. ويُلاحظ على مداخلات شي تكرار كلماتٍ تعبر عن “نحن” في سياقات “تاريخنا، زماننا، هدفنا تجديد الحضارة الإنسانية”، أي أن التطوّر العالمي اليوم هو لدول بريكس، ويسير بشكل منفصل عن واشنطن العالقة في عقلية الاحتواء، وفيه محاولة صينية لتهميش واشنطن. وهنا قال “خلق الانقسام بشكل متعمّد من خلال التأكيد على “الديمقراطية مقابل الاستبداد” و”الليبرالية مقابل الاستبداد” لا يمكن إلا أن يقسّم العالم ويؤدّي إلى صراع الحضارات… وتعزيز التعدّدية القطبية العالمية وزيادة الديمقراطية في العلاقات الدولية، والمساعدة في جعل النظام الدولي أكثر عدلا وإنصافا”.

توسيع العضوية واستثناء الجزائر
أكثر ما يؤرّق الباحثين في الدراسات الصينية الشرق أوسطية تسرّع مؤسّسات إعلامية عربية كثيرة، وبعض الصحافيين والمُحللين، وحتى القيادات في تقديم تفسيرات إيجابية وترويج انطباعاتٍ تحاول الصين تعزيزها في المنطقة العربية. لا يعني ذلك أن يكون الإنسان العربي متشائما، فالتبرير لهذا التسرّع مفهوم، لأنه نابع من محاولاتنا للبحث عن أملٍ بعد التفتّت والتشرذم والحروب التي عانت منها المنطقة بسبب الغرب بالدرجة الأولى. ولكن الأمل بدون وعي يبقى أحلام يقظة، وكثير مما ينشر عن الصين عربيا حمل ويحمل طابعا وهميا ونقاشات رغبوية، ومن المهم عوض ذلك طرح أسئلة مفتوحة للتفكير بها بعيدًا عن الرغبويات والتمنّيات.

تنتهج الصين سياسة تجاه المنطقة العربية تقوم على “تفخيم الذات عند الغير”

فوجئ الجزائريون عند الإعلان عن قائمة الأعضاء، وظهر سخط كبير أيضًا من ناشطين عرب كثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب استثناء الجزائر. وكان سبب الإحباط الأول تصريحات الصين وروسيا وجنوب أفريقيا عن أهمية الجزائر في “بريكس”. ويتعلق الثاني بعدم طرح المجموعة معايير قبول واضحة للأعضاء الجدد. فيما يتعلق بالأول، أشارت الدول الثلاث، في أكثر من مناسبة، إلى دعمها طلب الجزائر، وروّجت الصين في إعلامها لزيارة الرئيس تبّون، في يوليو/ تموز الماضي، والقول إن عضوية الجزائر في “بريكس” تتقدّم أولوياتها في اللقاء. وقامت الصين بتوسيع طموحات الجزائريين وتعزيز تفخيم الرسمية الجزائرية عبر ترويج الزيارة بأن تبّون ثاني رئيس عربي يدعوه الرئيس شي منذ بداية هذا العام (2023)، بعد دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس. 
والمُلاحظ أن الصين تنتهج سياسة تجاه المنطقة العربية تقوم على “تفخيم الذات عند الغير” و”خلق الانطباع” بأنهم ذوو أهمية استراتيجية لها، وهي سياسة تمارسها الصين تجاه الدول العربية الضعيفة مقارنة بغيرها، فقد مارست الحكومة الصينية وقياداتها وإعلامها الأسلوب نفسه قبل زيارة عبّاس وفي أثنائها، وادّعت أنها تريد حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، إلى درجة أن جل الإعلام العربي تحدّث عن دور كبير للصين في عملية التسوية السلمية. ولكن ما إن انتهت الزيارة حتى خفتت الحفلة الإعلامية، خصوصا الفلسطينية والعربية، بشأن الصين ودورها في عملية التسوية. وتمخّضت الرغبات عن خبر مقتضب يشير إلى الاتفاق على تمويل صيني لمشاريع تعبيد شوارع رام الله، وتعليم اللغة الصينية في المدارس الفلسطينية، والسماح للدبلوماسيين الفلسطينيين بالدخول إلى الصين بدون تأشيرة سفر. وهذا ما حدث مع الجزائر، تضخيم ومبالغة في التوقّعات يتوازى مع تعبيد أطول مشروع طريق في الجزائر، وفي الوقت نفسه، رفض عضويتها في “بريكس”!

قضية فلسطين برمّتها ليست ضمن الحسابات الجدية لمجموعة بريكس

سيقول بعضهم إن القرار اتّخذ بالإجماع، فلماذا لوم الصين بالدرجة الأولى؟ السبب أنها أكبر دول مجموعة بريكس، وأنها تستغل العرب وعاطفتهم ورغباتهم المتلهفة للتخلّص من الغرب. أما روسيا، فقد أشارت إلى دعمها الطلب، ولكن، ومع صدور قائمة العضوية، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في حفل الختام، أن الاعتبارات الأهم لقبول عضوية أيٍّ من الدول المرشّحة كانت هيبتها ووزنها (السياسي) وموقفها على الساحة الدولية، لأن الجميع متفقون على أن نوسّع صفوفنا من خلال ضم ذوي أفكار مشتركة. وأوضح لافروف أن من الدول التي تحمل الأفكار المشتركة تلك التي تؤيد تعدّدية الأقطاب، وضرورة جعل العلاقات الدولية أكثر ديمقراطية وعدالة، والدول الست التي قُبلت تستوفي هذه الشروط. وتنطبق هذه الشروط حصرًا على إيران، وليس على الدول التي قُبلت عضويتها. وهذا يطرح أسئلة مهمة منها: هل كانت هناك مؤشّرات قوية لسياسات إماراتية أو سعودية أو مصرية تشير إلى رفض الهيمنة الأميركية والمطالبة بدمقرطة العلاقات الدولية والتعدّدية القطبية؟ وهل هناك مؤشّرات واضحة تؤكّد إجراء هذه الدول، خصوصا الخليجية، بأي سياسات تهدف من خلالها إلى تغيير طبيعة النظام الدولي الاقتصادي العالمي؟ وأيضا، هل تمتلك الدول الخليجية عامة، والسعودية والإمارات خصوصا، القدرة الحقيقية على الخروج من عباءة النظام الأمني الأميركي؟ ربما كان النفي هو الجواب الأكثر معقولية على هذه الأسئلة والشبيهة بها، سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل القريب. وتقودنا هذه الأسئلة وإجاباتها إلى القول إن التفسير الذي قدّمه لافروف غير منطقي، ولا ينسجم مع الواقع السياسي الراهن. 
أسئلة أخرى يجب التفكير بها في السياق نفسه: ما هو الوزن السياسي الحقيقي الذي تمتلكه مصر على الساحة الدولية لقبول عضويتها؟ إذا ما وضعنا هذا السؤال مقارنة بالسعودية، فالسعودية تتفوّق بشكل كبير على باقي الدول التي قبلها الإقليم بعد إيران، وخصوصا في ظل السياسات الحالية لولي العهد محمد بن سلمان. وبالنسبة لمصر، بعيدًا عن حجم السكان، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، ما هي الإضافة الحقيقية لمصر في مجموعة بريكس؟ وإذا كانت مصر أهم من الجزائر، فلماذا وكيف تفوق مجالات التعاون الصينية والروسية مع الجزائر نظيرتها مع مصر؟ أهمية مصر الوحيدة في سياستها الخارجية الحالية على صعيد الإقليم، هو دور الوساطة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والذي يقتصر على محاولتها التهدئة أوقات الحروب والتصعيدات العسكرية، وعقدها عشرات من القمم الفلسطينية لإنهاء الإنقسام الفلسطيني. ومن غير المعقول القول إن هذا هو سبب قبول مصر في المجموعة، فقضية فلسطين برمّتها ليست ضمن الحسابات الجدية لمجموعة بريكس، بالرغم من الإشارة إليه في مناسبات عدة. ما يمكن التفكير فيه هنا هو الوزن الرمزي لمصر ومركزيتها العربية، وربما تطوّر دورها المستقبلي، بعيدا عن حالتها الراهنة من ناحية الدور القيادي والتأثير.

مصيرنا العربي ليس مخبوءا في الصين وروسيا، أو أي طرف دولي آخر، بل في أنفسنا

بالعودة الى مسألة استثناء الجزائر، يدّعي الرئيس الصيني أن هدف “بريكس” حماية الأسواق الناشئة وتطويرها. وهذا يطرح السؤال: هل الإمارات والسعودية صاحبتا اقتصادات ناشئة مقارنة بالجزائر، وهل تفتقر هذه الدول إلى الموارد كما هو حال الجزائر؟ وهل مصر دولة ذات اقتصاد ناشئ، والجزائر لا؟ وهنا نضع علامات شكوك بشأن الانتقائية في اختيار الدول. وبالتالي، يمكن تسمية الإضافة الحالية: “بريكس بلس أوبك BRICS Plus OPEC”، حيث يغلب على الدول التي تم قبولها من الشرق الأوسط صفة مشتركة (عدا مصر)، وهي امتلاك اقتصادات قوية مقارنة بغيرها في الإقليم، وأكبر احتياطي نفط في المنطقة مجتمعة. سؤال آخر يضاف بشأن مصر، هل جاء قبول مصر في إطار منافسة الغرب في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، ومحاولة تشتيت ولائها للغرب؟ وخصوصا بعد الشروط الكبيرة والخطيرة على الاقتصاد المصري التي وضعها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، من أجل تحرير العملة للحصول على قروض جديدة. وإذا كان الهدف منافسة الغرب، فهل من المنطقي أن تضع دول مجموعة بريكس عبئا اقتصاديا عليها، وهي في طور صعودها ونموّها؟ نقطة أخرى، إذا ما افترضنا أن حجم استثمار الدول في “بريكس” يرجّح لها كفة قبول العضوية، إذا فالجزائر تكسب، فقد اشترت أسهما  بقيمة 1.5 مليار دولار مقارنة بمصر التي ساهمت بـ 1.196 مليار دولار.
ثمّة منظور، أو سؤال آخر، يعزّز النقاش: كيف يمكن اعتبار محاربة الهيمنة الأميركية أساس العضوية في ظل قبول انضمام أبرز أدوات تعزيز هذه الهمينة في الشرق الأوسط منذ الحرب الباردة، السعودية والإمارات؟ أين حسابات وجود القواعد الأميركية في هذه الدول من معايير قبول العضوية؟ وأخيرًا، إذا كانت دول “بريكس”، كما قال لافروف، تسعى إلى إعادة هيكلة النظام الاقتصادي الدولي، إذا كيف يمكن تفسير وجود الحليف الأميركي، الهند، في المجموعة؟ ينطبق هذا الادّعاء على منظمة شنغهاي وليس “بريكس”، فقد تم رفض قبول عضوية اليابان فيها، على اعتبار أنها ستقوم بدور الجاسوس الأميركي داخل المنظمّة، إذا، كيف يختلف التحالف الأميركي الياباني عن نظيره الهندي؟ الهند من أهم الدول لأميركا بعد أستراليا واليابان من حيث القيمة الإستراتيجية لاحتواء الصين في جنوب شرق آسيا. إذا، يبقى السؤال الأهم هنا، ما هي المعايير الحقيقية لقبول العضوية في المجموعة؟
وأخيرًا، لا يمكننا التنبؤ بقبول طلب الجزائر أو رفضه مستقبلا، ولكن السؤال، إذا كان ادّعاء كل من جنوب أفريقيا والصين وروسيا حقيقيا، وأنهم داعمون لانضمام الجزائر، إذًا من الذي رفض عضوية الجزائر؟ البرازيل أم الهند؟ في نهاية الأمر، مصيرنا العربي ليس مخبوءا في الصين وروسيا، أو أي طرف دولي آخر، بل في أنفسنا.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى