بريطانيا تساوم بـ«الدولة الفلسطينية»: سنعترف بها… إلّا إذا

كتب سعيد محمد, في الاخبار:
لندن | في خطوة وُصفت بأنها تحوّل كبير في السياسة الخارجية البريطانية، أعلنت حكومة المملكة المتحدة، على لسان رئيس وزرائها السير كير ستارمر، عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول المقبل، ما لم تتخذ إسرائيل “خطوات جوهرية لإنهاء الأوضاع المروّعة في غزة”. هذا “التهديد”، الذي جاء وسط غضب دولي متزايد إزاء الأزمة الإنسانية المتفاقمة في القطاع المحاصر، وإنْ كان يُلحِق لندن بعدد من العواصم الأوروبية التي ضغطت أخيراً على تل أبيب، لكنه أثار تساؤلات عديدة حول خلفياته وقيمته الفعلية في تحقيق حل الدولتين المنشود.
ولم يكن القرار البريطاني مفاجئاً تماماً في سياق توسّع مفاعيل الأزمة الإنسانية في قطاع غزة؛ إذ تزايدت الضغوط على ستارمر، بما في ذلك من داخل حزبه، لتسريع وتيرة التحرّك. وكان أكثر من نصف نواب “حزب العمل” الحاكم، من مجموع 255 نائباً، وقّعوا على رسالة تطالب الحكومة بالاعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية.
ويبدو أن ستارمر ربط إعلانه بالحصول على ضوء أخضر أميركي، يبدو أنه حصل عليه خلال اجتماعه إلى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في أسكتلندا، وقول هذا الأخير إنه “لا يمانع” اتخاذ رئيس الوزراء البريطاني موقفاً في شأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ومن بعدها، اجتمع ستارمر بمجلس وزرائه لمناقشة الوضع في غزة، الذي وصفه بـ”المثير للاشمئزاز”، فأيّدت الحكومة بأكملها مضمون الإعلان.
وجاءت الخطوة البريطانية في أعقاب إعلان فرنسا عزمها على الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية في أيلول أيضاً، لتصبح أول دولة من “مجموعة السبع” تقدم على هذه الخطوة. ويبدو أنّ ثمة تنسيقاً من وراء الكواليس بين لندن وباريس وبرلين في هذا الشأن، ما يشير إلى محاولة لبناء جبهة دبلوماسية غربية أوسع للضغط، ولو شكليّاً، على إسرائيل، وتقديم سلّم لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للنزول من على شجرة غزة.
مع ذلك، وضع ستارمر مجموعة من الشروط التي يجب على إسرائيل تلبيتها لتجنّب الاعتراف البريطاني بالدولة الفلسطينية، تشمل السماح للأمم المتحدة بإعادة تشغيل إمدادات الدعم الإنساني إلى قطاع غزة من دون تأخير، وذلك لإنهاء المجاعة، بما في ذلك دخول ما لا يقلّ عن 500 شاحنة مساعدات غذائية إلى غزة يوميّاً، والموافقة على وقف إطلاق النار، والالتزام بسلام مستدام طويل الأمد يؤدي إلى “حلّ الدولتين”، والتعهّد بأنه لن تكون هناك أيّ عمليات ضمّ في الضفة الغربية، توازياً مع موافقة “حماس” على عدم لعب “دور مستقبلي في حكم غزة”، والموافقة على نزع سلاحها، وإطلاق سراح كل الرهائن الإسرائيليين المتبقّين دون قيد أو شرط.
ولم يتأخر ردّ فعل “الدولة العبرية”، إذ قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية إن إعلان المملكة المتحدة “يمثّل مكافأة لحماس، ويضرّ بالجهود الرامية إلى تحقيق وقف لإطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين هناك”. وكتب نتنياهو، عبر صفحته في موقع “إكس” رافضاً فكرة “حلّ الدولتين”، وقال: “لن يحدث ذلك”، محذّراً من أن “دولة جهادية على حدود إسرائيل اليوم، ستهدّد بريطانيا غداً”، و”استرضاء الإرهابيين الجهاديين يفشل دائماً، وسوف تفشلون أيضاً”.
من غير المُرجّح أن يكون لاعتراف المملكة المتحدة بالدولة الفلسطينية، حتى لو تحقَّق، تأثير كبير
كما حذّر محامون يمثّلون عائلات الرهائن البريطانيين المحتجزين لدى “حماس” في غزة، من أن نيّة الحكومة البريطانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية قد “تثبط إطلاق سراح الأسرى”. وقالوا، في بيان، إن “المملكة المتحدة قالت إنها ستعترف بدولة فلسطينية ما لم توافق إسرائيل على وقف إطلاق النار. لكنّ الخطر هو أن حماس ستستمرّ في رفض وقف إطلاق النار لأنه إذا وافقت على ذلك، فإن هذا سيجعل الاعتراف البريطاني أقلّ احتمالاً”.
في المقابل، اعتبر رئيس البعثة الفلسطينية إلى المملكة المتحدة، حسام زملط، إعلان ستارمر “بمثابة الخطوة الأولى ذات المغزى في معالجة الظلم العميق المتأصّل بدايةً من إعلان بلفور في الحقبة الاستعمارية، ولاحقاً خلال عقود من الإنكار المنهجي للحقوق الفلسطينية التي تلت ذلك”، فيما أشار إلى تصريحات وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، في الأمم المتحدة، الذي قال إن “وعد إعلان بلفور بألّا يُمسّ بالحقوق المدنية والدينية للشعب الفلسطيني، لم يتمّ الوفاء به وهو ظلم تاريخي مستمرّ في التكشف”.
على المستوى المحلّي، تلقّى إعلان ستارمر ردود فعل متباينة، إلى درجة أن بعض المعلّقين وصفوه باعتباره “ورطة” دبلوماسية. فبينما رحّب نواب “حزب العمال” بشكل عام بالموقف، إلّا أن مراقبين من مختلف الأطراف شكّكوا في فعاليته. وقالت رئيسة “لجنة الشؤون الخارجية” في مجلس العموم، إميلي ثورنبيري، إن إعلان ستارمر “خبر رائع”، وأكّدت أن “هذا تغيير كبير في السياسة الخارجية البريطانية، وهو الشيء الصحيح تماماً الذي يجب القيام به”، معتبرةً أن هذه الخطوة هي “بيان نيّة” وأنها “بداية لعملية”.
لكنّ خبراء في شؤون الشرق الأوسط كتبوا في صحف لندن أن “السعي نحو حلّ الدولتين قد انتهى عمليّاً”، وأنه “لم يتحقّق في ظلّ ظروف أكثر مناسِبة”. وأشاروا إلى أن الخطوة البريطانية قد تدفع الفلسطينيين إلى إثبات أنهم “يستحقّون هذا العرض السخيّ”، بدلاً من كونها وسيلة فاعلة للضغط على إسرائيل لإنهاء الحرب. وأشار المحرر الدبلوماسي لصحيفة “غارديان”، باتريك وينتور، إلى أن “منطق الإعلان فوضوي”، حيث إن الاعتراف بالدولة عادة ما يكون “اعترافاً بحقوق الشعب في أن تكون له دولة وليس ورقة للمساومة”.
كذلك، انتقد جوناثان ساكيردوتي، في مجلة “ذا سبيكتيتور”، الخطوة البريطانية، معتبراً أنها تخلق “حوافز منحرفة”. وقال: “إذا كان الاعتراف مشروطاً بتحقيق إسرائيل لوقف إطلاق النار، فإن حماس لديها كل الأسباب لإطالة أمد الصراع بدلاً من الموافقة على المقترحات التي قد توافق عليها إسرائيل بالفعل”. يدوره، أقرّ جورج إيتون، في مجلة “نيو ستيتسمان”، بأن موقف ستارمر الدقيق قد أغضب الطرفين لأسباب مختلفة، مشيراً إلى أن نتنياهو وصفه بأنه “يكافئ إرهاب حماس الوحشي ويعاقب ضحاياها”، بينما يرى كثيرون من اليسار والليبراليين أن ستارمر يتعامل مع قضية الدولة الفلسطينية “كورقة مساومة”.
واقعياً، من غير المُرجّح أن يكون لاعتراف المملكة المتحدة بالدولة الفلسطينية، حتى لو تحقَّق، تأثير كبير، ولا سيما أن 139 دولة عضواً في الأمم المتحدة تعترف رسمياً بالدولة الفلسطينية (السلطة) من دون أن يغيّر ذلك من الأوضاع على الأرض شيئاً. وليس لبريطانيا المعاصرة أيّ نفوذ فعّال على نتنياهو ليغيّر سلوك حكومته، بل وقد يجد الأخير ذريعة إضافية لتنتقم إسرائيل عبر ضمّ القطاع أو توسيع المستوطنات في الضفة الغربية أو تهويد أجزاء منها.




