انهيار الموازنة السورية… بطون وجيوب فارغة
بلغت موازنة سوريا العامة بعد أول سنة من الحرب في مطلع عام 2012 نحو 24 مليار دولار، على رغم أن المعارك كانت عمت معظم أرجاء البلاد خلال تسعة أشهر فقط من اندلاعها، ولكن القتال لم يكن يحمل القدرة التدميرية الذي شهده مع دخول الأسلحة الثقيلة على خط الحرب لاحقاً.
ومنذ بداية الحرب في سوريا أواسط مارس (آذار) 2011 ولشهور متتالية كانت البلاد تمتلك موازنة مرتفعة آنذاك، استناداً إلى أن ما يحصل كان بوادر تشكل الجبهات في وقت لم يطل البنى التحتية دمار يذكر وتمكنت المؤسسات الحكومية من الاستمرار في عملها.
ولكن عاماً تلو آخر بدأت تنهار الدولة من الداخل تحت ضغط العنف العسكري، الذي حول سوريا إلى جبهة مشتعلة ألقت بظلالها على الاقتصاد، الذي ظل ينهار تباعاً حتى وصلت موازنة سوريا مطلع العام الحالي 2024 إلى ثلاثة مليارات دولار فقط وفق سعر صرف الدولار في البنك المركزي السوري ونحو مليارين وقليل على حسابات السوق السوداء.
بالورقة والقلم
حين أقرت الحكومة السورية موازنتها لهذا العام روجت أنها تخطت موازنة 2023 بما يعادل 100 في المئة، وقد يبدو ذلك صحيحاً ومنطقياً على الورق ولكن بحالة واحدة فقط، وهي حساب الموازنة بقيمة العملة المحلية (الليرة السورية)، إلا أنه بحسابها على الدولار فيتضح أن الموازنة انهارت بنسبة تخطت 50 في المئة قياساً بالسنة الماضية.
ففي السنة الماضية سجلت الموازنة العامة 16550 مليار ليرة سورية فيما بلغت موازنة السنة الحالية حدود 35500 مليار ليرة سورية، فعلياً يبدو الرقم مضاعفاً تماماً، لكن ماذا لو تم حسابه بدقة على سعر صرف الدولار بين السنتين؟ ببساطة موازنة 2023 وبحسابها على سعر الصرف في حينه كانت تبلغ 6.5 مليار دولار، أما موازنة 2024 على سعر الصرف القائم حالياً فلا تتخطى 3 مليارات دولار.
وبحسب آراء اقتصادية فتلك مشكلة كبرى تتحمل مسؤوليتها الحكومة السورية التي لم تفلح – بحسبهم – في قيادة دفة الموازنة نحو استقرار ما لم يكن تحسناً كما يفترض.
موازنات منهارة بتتابع
المتخصص في الاقتصاد منذر عويناتي قال في حديث لـ”اندبندنت عربية”، إن المشكلة الكبرى ليست في إقرار الموازنة الحالية فقط بل في تتابع الموازنات التي تنهار خلال سنوات، على رغم توافر مناخ وبيئة ملائمة نسبياً لإحداث تحسينات استناداً لاتضاح مواقع السيطرة الميدانية واندثار المعارك وانتهائها التقريبي، مع عدم إيلاء ملفات تحمل أهمية قصوى كرافعة للنهوض الاقتصادي خصوصاً الزراعة والصناعة المحلية والتجارة الداخلية.
أضاف “تلك موازنة أقرب ما تكون إلى الوهمية لجملة أسباب لا تنتهي، وأكبر المشكلات التي تعوق الاستقرار الاقتصادي الداخلي هي الارتفاع المهول في معدلات التضخم الناجمة عن كثافة العملة النقدية المحلية الموضوعة بالتداول، والحاجة إلى التفكير في إصدار عملات من فئات أكبر توفر على الناس التداول بكميات كبيرة من النقود لا تشتري شيئاً عملياً”.
وتابع “اليوم يحتاج المشتري السوري أكياساً من الأموال من العملة المحلية لشراء سيارة مثلاً، والحل الوحيد الآن هو التفكير خارج الصندوق لإخراج البلد ومواطنيه من محنة تشتد كل يوم”.
خفض الكلف
في وضعه روشتة لعلاج الأزمات الاقتصادية، قدم سليم شرفلي المتخرج في كلية إدارة الأعمال المعني بالشأن الاقتصادي بعضاً من أسباب الكارثة الاقتصادية المتنامية في سوريا بقوله “الارتفاع الجنوني في الأسعار من أبسط المستلزمات إلى أثمنها يخلق شكلاً من ضياع الهوية الاقتصادية المفرط، الذي ينعكس سلباً على إقرار الموازنة بما توفر من موارد تقوم على أساس السوق وما يوفره للحكومة في ظل تهاوي ملف التصدير”.
ومضى في حديثه “لو جربت الحكومة أن تعمل خلال سنوات الحرب على خفض الكلف لما كنا وصلنا إلى هذه المرحلة، نحن بلد غير معني أساساً بالصناعات الثقيلة، ولكن اليوم يجب النظر بعناية لما يتم تصنيعه في الداخل من الحاجات البسيطة ولماذا كلفة إنتاجها أساساً مرتفعة للغاية فتخلق استنزافاً للموازنة نفسها التي سيتم تدوير جزء كبير منها في الداخل”.
وقال “لو تم ضبط ورعاية شؤون الإنتاج الأولي وهذا متاح لكان حصل تطور في الموازنة بلا شك، خصوصاً أننا نتحدث هنا أن الحكومة أقرت أكثر من 26 ألف مليار ليرة (ما يزيد على ملياري دولار) من أصل 35 ألف مليار ليرة (3 مليارات دولار) من الموازنة للإنفاق الجاري، و9 آلاف مليار ليرة للاستثمار فقط (700 مليون دولار)، فماذا يفعل هذا الرقم لبلد؟ مع العلم أن قيمة العجز في الموازنة تساوي قيمة الرقم المخصص للاستثمار”.
“دعه يعمل… دعه يمر”
في حين يعرض الأكاديمي في الاقتصاد فراس إسماعيل نماذج ناجحة في الاقتصاد العالمي وقابلة للتطبيق حالياً في سوريا قبل الغد وهو اللجوء نحو مفهوم “البرجوازية الوطنية” التي تركز على الصناعة لا التجارة وتهتم بالصناعة الوطنية فقط لإثراء الاقتصاد الوطني كأولوية قصوى، ومن ثم حمايته من التكبيل والقيود الخارجية والداخلية التي تتحكم في الصناعة، سامحة له بالنشاط من جديد في وجه احتكار واضح في كثير من القطاعات.
وعزز فراس رأيه بطرح فرضية اقتصادية أخرى يمكن لها من وجهة نظره انتشال الواقع الاقتصادي السوري مما هو عليه والعبور نحو سنين قادمة أكثر أماناً مالياً، وتتبنى “نظرية اقتصادية فرنسية تقوم على مبدأ عدم التدخل، وتسمى حرفياً بـ(دعه يعمل… دعه يمر). وتلك السياسة تقوم أولاً وأخيراً على كف يد الحكومة عن التدخل في التجارة بأي شكل وهو ما يحقق ازدهاراً ونمواً ومنافسة تخلق واقعاً اقتصادياً جدياً”.
وذهبت أيضاً إلى هذا الرأي وزيرة الاقتصاد والتجارة الخارجية السورية السابقة لمياء عاصي، إذ خرجت في أكثر من لقاء مع وسائل إعلام محلية في وقت سابق وطالبت الحكومة الحالية في دمشق بضرورة تطبيقه لتحقيق النجاة الاقتصادية أمام المأزق الكبير.
سوريا والبحر الأحمر
رفعت الحكومة السورية سعر البنزين ست مرات خلال الشهرين الماضيين، ورفعت سعر المازوت، وأسعار الاتصالات الأرضية والخلوية والإنترنت، وامتد الأمر نفسه إلى الخبز، وهي ارتفاعات من جملة رفع يحصل بين وقت وآخر ولكنه لم يكن سابقاً بهذا التواتر والتسارع الذي أشاع الريبة بين الناس على ما يقولونه في يومياتهم أو ما يعبرون عنه عبر وسائل التواصل الاجتماعي
وبما أنه لا يمكن عزل سوريا عن محيطها الإقليمي الذي تحضر به مع كل ضرر واقع فلا بد من الإشارة إلى الآثار التي ألمت بالبلاد إثر التطورات العسكرية والميدانية التي يقودها الحوثيون في البحر الأحمر، تلك الهجمات على السفن وطرق العبور قد تكون كفيلة بحمل تبرير للارتفاع المتسارع في أسعار الأساسات في الداخل السوري.
مصدر مطلع أشار هنا في تصريح خاص إلى أن سوريا ولبنان تأثرتا بصورة مباشرة بأحداث البحر الأحمر التي بدأت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، معللاً ذلك بأن السفن التي تغير طريقها الآن للوصول إلى الموانئ السورية حيث زادت أجور شحنها بين 200 و300 في المئة مما سينعكس مباشرة على الداخل السوري ارتفاعاً في الأسعار وهو ما بدأ الناس يشعرون به الآن بشكل فعلي.
مصائب بالجملة
ولأن المصائب لا تأتي فرادى كما اعتاد السوريون فإنهم فقدوا منفذهم البري الوحيد للحصول على البضائع الشرق آسيوية بعد تنفيذ القوات الأميركية ضربات لـ85 موقعاً من دير الزور شرق سوريا حتى الأراضي العراقية مطلع فبراير (شباط) الجاري رداً على استهداف قواتهم في الأردن.
ذلك الاستهداف أسهم في إطباق الحصار على سوريا بشكل مؤثر تماماً، إذ كان هذا الطريق موضع خلاص في الأزمات المشتدة، تلك المعلومات تؤكدها تصريحات لغرفة تجارة دمشق لإحدى الصحف المحلية في وقت سابق، إذ جاء فيها “البضائع لا تأتي من آسيا دفعة واحدة، بل على مراحل وأحياناً متباعدة، من ثم لا يوجد في مستودعاتنا بضائع مخزنة بوفرة نتيجة الظروف المعقدة التي تواجهنا وأهمهما موضوع القطع الأجنبي، وما حصل سيؤثر في مخزوننا الاحتياط ومخزون السوق ومن ثم سترتفع الأسعار”.
وما يكمل تعقيد الأمر هو انشغال روسيا بالملف الأوكراني وابتعادها خلال السنوات الماضية عن دعم سوريا داخلياً بصورة واضحة، ويضاف إلى ذلك تصاعد وتيرة الأعمال بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في شمال شرقي البلاد وتركيا وضربات الأخيرة التي دفعت الأكراد لرفع الأسعار في مناطقهم أيضاً إثر تضرر عديد من مواردهم الرئيسة.
تلك التغيرات في مناطق سيطرة الأكراد رشح عنها تسريبات تفيد بنيتهم منع بيع القمح هذا الموسم لدمشق، بغية تأمين موارد تبادلية داخل مناطقهم وفي الوقت ذاته كافية للسكان هناك، علماً أن مناطق سيطرة الأكراد في سوريا تعتبر تاريخياً سلة الغذاء للبلاد وخزان نفطها.
تحت كل ذلك الضغط الواقع على سوريا، والمركب براً وبحراً وجواً، يتوقع صدور القانون الأميركي الجديد تحت اسم “مناهضة التطبيع مع النظام” بعد أن صدق عليه مجلس النواب الأميركي بانتظار مصادقة مجلس الشيوخ عليه، ومن ثم توقيع الرئيس الأميركي جو بايدن ليصبح نافذاً ويلحق بقانوني “قيصر والكبتاغون” الأشد تأثيراً خلال سنوات الحرب، مع وجود أكثر من 2500 عقوبة فعلية سارية من دول العالم على سوريا حكومة وكيانات وأفراداً.