انقلاب أمريكي على إسرائيل

كتب مفتاح شعيب في صحيفة الخليج.
إذا صح استطلاع الرأي الذي يشير إلى أن 58 في المئة من الأمريكيين يؤيدون الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن هذه النتيجة ضربة أخرى تتلقاها إسرائيل من حيث لا تحتسب، ومقدمة لإرهاصات أولية تمهد لانقلاب لن يطول في الموقف الأمريكي على الأسطوانة المتهالكة الداعية إلى دعم إسرائيل «ظالمة أو مظلومة»، لتنسجم مع قناعة عالمية متنامية بأن ما فعلته تل أبيب في قطاع غزة لن يغفره التاريخ أبداً ولن يسقط من الذاكرة.
بعد أقل من عامين من الحرب العدوانية على غزة، لم تتبق لإسرائيل إلا قلعة نائية في المجتمع الدولي هي الإدارة الأمريكية تحتمي بها، أما سواها من الدول فقد تبرأت وعادت إلى ضمائرها وبدأت تجنح إلى ما تراه حقاً وعدالة بإدانة مسلسل القتل والتجويع في غزة، والعزم على الاعتراف بالدولة الفلسطينية ودعمها حتى تصبح كائناً سياسياً وجغرافياً حياً مثلما تنص القوانين الدولية وشرعة الأمم المتحدة والقيم الإنسانية المشتركة بين الأمم والشعوب.
غداة هجوم السابع من أكتوبر 2023، وبدء الحرب على القطاع، وقفت كل الدول الغربية، بلا استثناء، إلى جانب إسرائيل ومنحتها ما لم تكن تحلم به من دعم ومساندة، فزارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبكى تعاطفاً مع الرهائن، ثم وصلها الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، للمرة الأولى خلال حرب، ثم توالى مدد من السلاح بلا حد. ولكن بموازاة ذلك، كانت الشوارع والجامعات الغربية تعج بالمظاهرات والاحتجاجات رفضاً لهذه الحرب وتحذيراً من إبادة ومذابح سيرتكبها بنيامين نتنياهو ومن التفّ حوله من متطرفين، وهو لم يجانب التوقعات ولم يكذّب المخاوف، بل فعل أكثر بكثير وغرق في لجة واسعة من الجرائم، أصبح جراءها ملاحقاً من محكمة الجنايات الدولية ومنبوذاً من أغلب العواصم لا يزورها ولا تزوره. وها هي أوروبا، كلها تقريباً، تنقلب على إسرائيل وتتداعى حكومة بعد حكومة للاعتراف بالدولة الفلسطينية ولإدانة استمرار الحرب على غزة، وها هو ماكرون وغيره من القادة الأوروبيين يكيلون التهمة وراء التهمة لنتنياهو. وكل هذه المواقف، وخصوصاً الفرنسية والبريطانية والكندية والأسترالية وحتى الألمانية، لم تكن متوقعة قبل نحو عام، أما الآن فقد أصبحت في ضفة أخرى، لأن تلك الحكومات استمعت إلى أصوات شعوبها والتزمت ورفضت أن تكون مشاركة أو شاهدة زور في جريمة ضد الإنسانية فاقت حدود الخيال.
الشعب الأمريكي، تنحدر أغلب جيناته من الأمم الأوروبية، ويتفاعل معها ثقافياً وإعلامياً، وعلى هذا الأساس لن تكون مواقفه الحضارية مناقضة للمبادئ المشتركة، وسيصطف آجلاً أم عاجلاً إلى جانب العدالة والاعتراف بالدولة الفلسطينية. وقد يقول قائل: إن الإدارة الأمريكية، الخاضعة لجملة من المصالح والاستراتيجيات، لن تستجيب لرغبات الرأي العام ولن تنساق إلى توجهاته. وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن الولايات المتحدة، المعروفة ببراغماتيتها وسعيها الدائم للمحافظة على صورتها كقوة عظمى، لن تضحي بعلاقاتها التاريخية المديدة مع أقرب حلفائها في أوروبا للدفاع عن إسرائيل، التي ستظل مجرد أداة قد تنتهي صلاحيتها في أي وقت. وهذا الانطباع يعكسه التبرم الواسع في الشارع الأمريكي، ورغبته المتزايدة في تغيير السياسة الرسمية، ويتردد هذا بجرأة في الكونغرس وفي وسائل الإعلام، وحتى في حركة «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، ومرة أخرى فإن الانحياز الأمريكي لإسرائيل طريقه قصير، والانقلاب عليه وارد مثل أي حتمية تاريخية.