انخفاض التضخم وارتفاع النمو يمنح أميركا أفضل انتعاش في العالم
بالكاد ينمو الاقتصاد الأوروبي، الذي يعوقه اليوم ضعف غير مألوف في ألمانيا، فيما لا تزال الصين تكافح من أجل استعادة هيبتها، والأداء الياباني لا يزال مخيباً للآمال، ولكن في الولايات المتحدة، القصة مختلفة، فعلى رغم قلق المستهلكين المستمر في شأن التضخم، فإن الاقتصاد القوي إلى حد مدهش يتفوق في الأداء على جميع شركائه التجاريين الرئيسين.
منذ عام 2020، تمكنت الولايات المتحدة من التغلب على جائحة تحدث مرة واحدة كل قرن، وهو أعلى معدل تضخم منذ 40 عاماً وتداعيات حربين خارجيتين، والآن، بعد أن سجلت نمواً سنوياً أسرع في العام الماضي مقارنة بعام 2022، يعمل الاقتصاد الأميركي على سحق المخاوف من الركود، بينما يقدم دروساً لمكافحة الأزمات في المستقبل.
وقالت المحللة الاقتصادية السابقة في بنك الاحتياط الفيدرالي (المركزي الأميركي) والتي تدير الآن شركة استشارية تحمل اسمها، كلوديا سهم، لصحيفة “واشنطن بوست”، “خرجت الولايات المتحدة بالفعل من هذا الوضع إلى مكان قوة، وتتحرك للأمام كما لم يحدث كوفيد على الإطلاق… لقد حصلنا على هذا ولم يكن مجرد صدفة”.
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن أشاد يوم الجمعة الماضي، بالبيانات الحكومية الجديدة التي تظهر أن التضخم السنوي خلال النصف الثاني من عام 2023 انخفض إلى هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ اثنين في المئة، إلى جانب أخبار يوم الخميس الماضي التي تفيد بأن الاقتصاد نما بنسبة 3.1 في المئة خلال الأشهر الـ12 الماضية، وأظهر تقرير وزارة التجارة أن الولايات المتحدة حققت هبوطاً اقتصادياً ناعماً.
تحدى التعافي من الوباء المعتقدات الاقتصادية القديمة، مثل فكرة وجود علاقة عكسية بين البطالة والتضخم (فمع ارتفاع أحدهما، كان من المتوقع أن يهبط الآخر)، وأثبت هذا العلاج، الذي عبر عنه الاقتصاديون بمسمى “منحنى فيليبس”، عدم جدواه تقريباً في تفسير سلوك الاقتصاد في الآونة الأخيرة.
يشير نجاح واشنطن في إنعاش الاقتصاد إلى اتباع نهج جديد في التعامل مع فترات الركود المستقبلية، وهو نهج يعتمد بشكل أكبر على قوة الحكومة في المحفظة، وبشكل أقل على سيطرة بنك الاحتياط الفيدرالي على كلفة الائتمان.
وقالت سهم “وضع الأموال في أيدي الناس مقابل التحرك حول أسعار الفائدة، وهي السياسة النقدية، ستكون السياسة المالية أقوى، لا يمكننا أن ندخل في الأزمة التالية، ونحن نقول: بنك الاحتياطي الفيدرالي يفهم هذا”.
وقاد الإنفاق الاستهلاكي النمو الاقتصادي للبلاد، إذ ارتفع الاستهلاك الحقيقي بنسبة 0.5 في المئة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وهي أسرع وتيرة له منذ يناير (كانون الثاني) الماضي. وقفزت مبيعات المنازل المعلقة أيضاً، وبعد موجة الأخبار الجيدة، قال الاقتصاديون في بنك “جيه بي مورغان تشيس” إنهم رفعوا توقعاتهم للنمو في الربع الأول من العام الحالي.
وأعلنت كل من “آي بي أم” و “فيزا” و”جنرال إلكتريك” الأسبوع الماضي عن أرباح فاقت توقعات المحللين، وهي علامة أخرى على استمرار صحة الاقتصاد.
الاقتصاد الأميركي نجا من عديد الأزمات
ونجا الاقتصاد الأميركي البالغ حجمه 28 تريليون دولار من صدمات متعددة خلال العام الماضي، وعاد إلى مسار النمو الذي كان عليه قبل الوباء. واستعاد حجم الاقتصاد، المعدل بحسب التضخم، ذروته قبل الوباء في أوائل عام 2021. وحتى نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، كان أكبر بنسبة تزيد على سبعة في المئة عما كان عليه قبل الوباء، وكان هذا أكثر من ضعف المكاسب التي حققتها اليابان، وأفضل بكثير من الزيادة الضعيفة في ألمانيا بنسبة 0.3 في المئة، وفقاً لبيانات البرلمان البريطاني.
وبالنسبة لمعظم الأميركيين، أتى النمو بثماره في شكل أجور أعلى، فعلى مدى السنوات الأربع الماضية حتى سبتمبر الماضي، ووفقاً لأحدث مقارنة متاحة، ارتفعت الأجور في الولايات المتحدة – بعد التضخم – بنسبة 2.8 في المئة.
وشهدت معظم الدول الأخرى في مجموعة الديمقراطيات الصناعية السبع تراجعاً، وفقاً لبيانات وزارة الخزانة الأميركية، إذ انخفضت الأجور الإيطالية بأكثر من تسعة في المئة خلال تلك الفترة، في حين حصل العمال الألمان على أجر أقل بنسبة 7.2 في المئة عما كانوا عليه قبل الوباء.
وقالت وزيرة الخزانة الاميركية جانيت يلين في خطاب ألقته في شيكاغو الأسبوع الماضي، “شهدت الولايات المتحدة انتعاشاً قوياً بشكل خاص في الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع التضخم بسرعة أكبر مقارنة بالاقتصادات الكبيرة المتقدمة الأخرى… إن الزيادة في الأجور الحقيقية هي أمر فريد بالنسبة لتعافي بلادنا”.
ويمكن إرجاع أصول هذا الأداء المتحدي إلى استجابة المشرعين السريعة لجائحة فيروس كورونا في مارس (آذار) 2020، وقبل نهاية الشهر، وافق الكونغرس على أكثر من تريليوني دولار كمساعدة للاقتصاد مع إغلاق الشركات وفقدان 17 مليون أميركي قروضهم.
بداية استجابة
وكانت تلك مجرد بداية استجابة من واشنطن لأسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير، ووافق الكونغرس في نهاية المطاف على ما يقرب من ستة تريليونات دولار لإنقاذ الاقتصاد من الوباء، واتخذ كل من الرئيسين دونالد ترمب وبايدن إجراءات إدارية، مثل إيقاف دفعات القروض الطلابية موقتاً، مما أضاف 875 مليار دولار أخرى إلى علامة الإنقاذ، وفقاً للجنة الموازنة الفيدرالية المسؤولة.
وساعد بنك الاحتياط الفيدرالي من خلال خفض كلفة الاقتراض بالنسبة للمستهلكين والشركات، ومن خلال شراء ما قيمته تريليونات الدولارات من الأوراق المالية الحكومية والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري لدعم الاقتصاد.
ولكن القوة الرئيسة وراء الاقتصاد القوي اليوم تكمن في السياسة المالية، واستخدام الإنفاق الحكومي والضرائب لتعزيز النمو، وفي عهد رئيسين – أحدهما جمهوري والآخر ديمقراطي – اختار المشرعون إغراق الاقتصاد بالنقود لدرء فيروس كورونا.
كل هذا الإنفاق الحكومي – شيكات التحفيز، والقروض المقدمة للشركات الصغيرة وإعانات البطالة الموسعة – أضاف ما يصل إلى 25.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لصندوق النقد الدولي، وبالمقارنة أنفقت الدول الأوروبية والآسيوية الكبرى أقل بكثير، ففي ألمانيا، خصصت الحكومة 15.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمكافحة الوباء، وأنفقت فرنسا 9.6 في المئة، وإيطاليا 10.9 في المئة، وحتى بريطانيا، التي هي الأقرب إلى وجهات النظر الاقتصادية الأميركية، تخلفت كثيراً عن الولايات المتحدة بنسبة 19.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وقال كبير الاقتصاديين في “كابيتال إيكونوميكس” في لندن، نيل شيرينتغ، “كان حجم الدعم المالي للاقتصاد الأميركي أكبر بكثير مما هو عليه في أوروبا”.
ومن المؤكد أن الاستجابة الأميركية للأزمة لم تكن خالية من العيوب، ومع تصميمه على تجنب فشل السياسات التي أدت إلى التعافي الهزيل بعد الأزمة المالية في عام 2008، ربما يكون بايدن قد بالغ في التعويض.
ويُنظر على نطاق واسع إلى الدفعة الأخيرة من جهود الإغاثة من فيروس كورونا، وهي خطة الإنقاذ الأميركية بقيمة 1.9 تريليون دولار في أوائل عام 2021، مع تعزيز النمو، على أنها أسهمت في ارتفاع الأسعار التي رفعت التضخم إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً، عند 9.1 في المئة.
وتضمنت خطة الإنقاذ شيكات تحفيز بقيمة 1400 دولار لمعظم الأميركيين، وتعزيز إعانات البطالة، ومساعدة حكومات الولايات والحكومات المحلية، فإضافة إلى برنامج منفصل بقيمة 900 مليار دولار في ديسمبر 2020، كانت خطة الإنقاذ الأميركية مسؤولة عن نقطتين إلى أربع نقاط مئوية من الارتفاع التضخمي، وفقاً لعديد من الدراسات التي أجراها اقتصاديون.
ويقول بعض الاقتصاديين إن المساعدة الطارئة للاقتصاد المتضرر دفعت الدين الوطني إلى مستوى مرتفع جديد، بلغ 34 تريليون دولار، أو أكثر من 120 في المئة من الناتج الاقتصادي السنوي، مما أدى إلى تفاقم التهديد طويل المدى لازدهار البلاد.
ومع انحسار الوباء، حقق بايدن انتصارات تشريعية أخرى في مجالات البنية التحتية، ودعم صناعة أشباه الموصلات، ومشاريع الطاقة النظيفة، ولم تكن هذه البرامج مصممة كبرامج تحفيز، ولكن من خلال إرسال أنهار إضافية من الأموال إلى الاقتصاد، كان لها هذا التأثير، وفقاً للمحلل الاقتصادي في مركز البحوث الاقتصادية والسياسية الأميركية، دين بيكر.
لسنوات بعد أزمة عام 2008، قبل الرئيس باراك أوباما – تحت ضغط من الكونغرس الجمهوري – بخفض الإنفاق الفيدرالي، وترك ذلك بنك الاحتياط الفيدرالي يحارب الضعف الاقتصادي بمفرده، وبعد ذلك وبفضل تجربة الوباء، قد تتجه أنظار الأمة إلى الكابيتول هيل.
وقال الاقتصاديون إن أحد الدروس المستفادة من التعافي من الوباء هو قوة قدرة الحكومة على فرض الضرائب والإنفاق، ومن الممكن أن تؤثر إجراءات الكونغرس على الاقتصاد بشكل أسرع من التأثير المتأخر للتغير في كلفة الاقتراض، كما أنها أكثر تأكيداً من نتائج سياسات بنك الاحتياط الفيدرالي الأخرى الأقل تقليدية والمصممة لتحفيز النمو.
وقال المحلل الاقتصادي السابق في بنك الاحتياط الفيدرالي، والذي يعمل الآن في معهد “أميركان إنتربرايز”، مايكل سترين، “يمكن للحكومة، من خلال السياسة المالية، أن تؤثر حقاً في سرعة التعافي من الانكماش، والآن، هناك مليون تحذير لذلك”.
ويرى بعض الاقتصاديين ما هو أكثر من مجرد سياسة الحكومة وراء التعافي في الولايات المتحدة، فمع تسبب الوباء في جعل ملايين الأميركيين عاطلين من العمل بين عشية وضحاها تقريباً في ربيع عام 2020، استجاب كثيرون من خلال إطلاق مشاريع تجارية.
واستمر هذا الاتجاه لمدة أربع سنوات، وفي ديسمبر الماضي، قدم 457316 طلباً للحصول على أرقام التعريف الضريبي إلى دائرة الإيرادات الداخلية، مقارنة بـ 314337 في ديسمبر 2019.
واستفادت الولايات المتحدة من سياسة الإنفاق الحر السريع، فيما عانت أوروبا من كونها أقرب إلى الخطوط الأمامية للحرب الروسية على أوكرانيا، وقبل اندلاع الصراع في فبراير (شباط) 2022، كانت دول مثل ألمانيا تعتمد على روسيا في تلبية معظم حاجاتها من الغاز الطبيعي، وتسببت الحرب في ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية والوقود والأسمدة، مما أدى إلى ارتفاع التضخم في منطقة اليورو إلى مستويات صاروخية.
وكانت استجابة أوروبا للأزمة الاقتصادية تتطلب عموماً من الشركات التي تلقت مساعدة حكومية، أن تبقي عمالها على جدول الرواتب، ففي حين سُرح الأميركيون من وظائفهم ثم حصلوا على مساعدات من البطالة وضوابط التحفيز، ظل الأوروبيون في وظائفهم، وأدى ذلك إلى تجنيبهم حالة عدم اليقين في شأن سوق العمل، ولكنه غالباً ما حبسهم في وظائف لم تكن هناك حاجة إليها في عالم ما بعد الوباء.