اقتصاد ومال

انتهاء عصر الجوع في سوريا… تحالفات القمح وتوفير الخبز

للخبز في سورية رمزية مهمة كانت مؤشراً على مرحلة بكاملها، إذ عاش المواطنون في عهد نظام بشار الأسد وسط موجات من الجوع كشفتها أزمة خبز خانقة في ظل تدهور إنتاج القمح، وجرى ربط الحصول عليه بالبطاقة الذكية التي تحدد عدد الأرغفة المتاح أكلها للأسرة.
وجاءت الإدارة الجديدة لسورية بعد تحرير دمشق لتواجه أزمة إضافية منها توقف صادرات قمح روسية إلى دمشق، ما يطرح سؤالاً مهماً حول تحالفات القمح الجديدة، وكيف ستواجه السلطة الجديدة هذه الأزمة؟

ملامح أزمة الخبز في سورية

تواصلت “العربي الجديد” مع مصادر مختلفة، من اللاذقية غربي سورية والعاصمة دمشق وحلب بالشمال، وأكدوا بدء تراجع العرض، بعد الوفرة الكبيرة في حلب الأسبوع الماضي، لكنهم أشاروا إلى أمرين إيجابيين، الأول عودة الأفران للعمل والإنتاج بعد تسهيلات ودعم من الحكومة المؤقتة، والثاني شراء الخبز مباشرة من الأفران، لكن بسعر مرتفع.

يقول راشد شباط من دمشق، إن الأفران تعمل بشكل جيد، لكن مع ازدحام بعض الشيء، بعد إتاحة الفرصة لشراء الخبز من دون إبراز البطاقة الذكية، مؤكداً لـ”العربي الجديد” تراجع حالات بيع الخبز الحر أمام أفران ابن العميد التي كانت تستغل حاجة المستهلكين، وتبيع الربطة بنحو 7 آلاف ليرة، بعد توحيد السعر بـ4 آلاف ليرة للربطة (10 أرغفة).
ومن حي الأنصاري في حلب، تكشف السيدة ريان حسن عودة الازدحام أمام الأفران، بعد الوفرة وتوزيع الخبز بالمجان، خلال الأيام الأولى من تحرير حلب، مشيرة إلى أن سعر ربطة الخبز مرتفع قياساً للدخل المحدود للشعب، مقترحة تخفيض السعر “ولو خسرت الحكومة وتحملت الفارق مع التكاليف”. وأوضحت لـ”العربي الجديد” تراجع أسعار معظم السلع والاحتياجات اليومية للأسرة.
ويقول عبد الناصر إسماعيل من مدينة اللاذقية: “لا يزال الازدحام على الخبز رغم تراجعه كثيراً عن الأسبوع الماضي، حين وصل سعر ربطة الخبز السياحي إلى 16 ألف ليرة. وشهد مخبز الكرامة الشهير بحي الصليبي ازدحاماً وقلة بالعرض”، مقترحاً، في اتصال مع “العربي الجديد” تثبيت سعر الخبز حتى بعد زيادة الأجور التي ألمحت إليها الحكومة.
وحول ملامح أزمة خبز تلوح بالأفق، يرى المهندس الزراعي، يحيى تناري، أن “القصة في زيادة الإقبال تعكس مخاوف فقط”، إذ لا نقص حاداً بالمخزون، كما أن عوائق إنتاج الرغيف تتلاشى تدريجياً، سواء المشتقات نفطية أو الطحين والخميرة والعمالة، كاشفاً أن مخزون سورية من القمح، إنتاج العام الماضي والمستوردات المخزنة بصوامع “حماة وحمص واللاذقية وطرطوس، تكفي سورية لمدة عام”. ويضيف: “وصل الإنتاج إلى أكثر من 1.5 مليون طن قمح بالإضافة إلى استيراد نحو 400 ألف طن، وهذه الكمية تقريباً هي حاجة سورية السنوية”. ويلفت تناري من محافظة إدلب “العربي الجديد” إلى أنّ الحكومة الانتقالية تركّز على قضية الخبز باعتبارها أولوية، كما تسارع لتأمين الخدمات بالتوازي مع كفاية الأسواق، وتحسين سعر صرف الليرة، فهذه المسائل تأتي أولاً، مع تأهيل المنازل والبناء، لعودة جميع المهجّرين، وليشعر الجميع بفارق الحياة الجديدة.
وكانت وزارة التجارة وحماية المستهلك بنظام الأسد المخلوع، قد رفعت في مارس/ آذار الماضي، سعر ربطة زنة 1100 جرام إلى 4000 ليرة، حسب البطاقة الذكية، ورفع ربطة الخبز السياحي من 5 إلى 10 آلاف ليرة بالتوازي، مع رفع سعر بيع ليتر المازوت للأفران العامة والخاصة من 700 إلى 2000 ليرة سورية.

قصة القمح… من الوفرة إلى الندرة

تقول المهندسة الزراعية بتول الأحمد لـ”العربي الجديد” إن إنتاج سورية من القمح، وصل خلال تسعينيات القرن الماضي لنحو 5 ملايين طن، قبل أن يستقر وحتى قيام الثورة على نحو 4 ملايين طن، وقد يتراجع قليلاً، حسب المساحات المزروعة والظروف الجوية. لكن منذ أكثر من عشر سنوات لم يتعدَّ الإنتاج مليوني طن، موزعة على مناطق الجزيرة، الأكثر إنتاجاً بنحو مليون طن، وعلى مناطق المعارضة بنحو 300 ألف طن، ونحو 600 ألف طن بمناطق النظام.
وتكشف الأحمد أن نظام الأسد كان يسد العجز من خلال مقايضة قمح الجزيرة الذي تتحكم به “قسد”، أو يشتريه بأسعار مخفضة عبر شركة قاطرجي، كما الموسم السابق حين اشترى أكثر من 700 ألف طن.

وفي المقابل، يكشف مدير مؤسسة الحبوب بحكومة الائتلاف، حسان محمد “العربي الجديد” إلى أن الاحتياج السنوي لسورية كلها بسكانها الحاليين نحو 2.5 مليون طن، في حين أن الكميات الموجودة اليوم، وبعد استيراد النظام المخلوع نحو 500 ألف طن وشراء أكثر من 500 ألف طن من “قسد”، وما جرى استلامه في مختلف المناطق، تكاد تكون كافية حتى موسم الحصاد المقبل، وبالتالي “لا مبرر للمخاوف برأيي”، حسب محمد.
وحول الاستيراد من روسيا، وإمكانية التعويض من دول أخرى فيما لو أوقفت موسكو تصدير القمح للحكومة الانتقالية الجديدة، يقول محمد إن الاستيراد من روسيا كان يجري عبر بواخر بسعة 50 طناً لعقود طويلة، وأوكرانيا بديل أقرب وأرخص بالنسبة للسوريين، في حال وقف الصادرات الروسية نهائياً.
وقالت مصادر روسية وسورية الجمعة الماضي لـ”رويترز” إن إمدادات القمح الروسية إلى سوريا جرى تعليقها بسبب الضبابية بشأن الحكومة الجديدة هناك ومشكلات تتعلق بالدفع. وأظهرت بيانات شحن أن سفينتين محمّلتين بالقمح الروسي كانتا متجهتين إلى سورية لم تصلا إلى وجهتيهما. وذكر مصدر بقطاع القمح في روسيا أن 60 ألف طن من القمح مُحملة على السفينتين قد تُباع لمشتر آخر، نظراً لعدم سداد الجانب السوري مدفوعات مقابل قمح تسلمه من قبل.

تسابق دولي لتقديم المساعدات

يتوقع المستشار الاقتصادي السوري، أسامة القاضي، أن تتلقى الحكومة السورية الانتقالية، مساعدات ومعونات غذائية من دول عدة خلال الفترة المقبلة، سواء من دول خليجية كقطر، أو إقليمية كتركيا، أو حتى دولية من أوروبا والولايات المتحدة.
ويشير القاضي لـ”العربي الجديد” إلى أنه في صالح الدول جميعها مد اليد لسورية اليوم، لتمكين الحكومة الجديدة، والتأسيس لعلاقات مع سورية، ووقف مشاهد العوز والجوع المنتشرة منذ سنوات، بعد أن أوصل النظام المخلوع نسبة الفقر لأكثر من 90%، مستشهداً بالدول التي عرضت المساعدات والمعونات وتصدير القمح، بعد تلويح موسكو بوقف التصدير، وهذا سينسحب برأي القاضي، على النفط ريثما تعيد سورية الآبار وتؤهلها، وحتى على صعيد المعونات المالية لتتمكن الحكومة الحالية من تحقيق خططها الطموحة.
وكان رئيس جمهورية الشيشان الروسية، رمضان قديروف، قد أعلن، رغم نفيه توقف إمدادات القمح الروسية إلى سورية، استعداده لتأمين احتياجات سورية من القمح، في حال تعطل إمدادات موسكو المباشرة. وأشار عبر قناته على تليغرام، أول من أمس، إلى استعداده لتحمّل المسؤولية في حال حدوث تعطّل في الإمدادات: “بصفتي رئيس جمهورية الشيشان، أنا مستعد لضمان الكمية اللازمة من القمح لسورية”.
ومن أوكرانيا التي يرى مراقبون أنها ستحاول سد أي نقص كانت تملؤه روسيا، أبدى وزير الزراعة، فيتالي كوفال، استعداد بلاده لتوريد الغذاء لسورية بعد سقوط نظام الأسد، مشيراً إلى أن كييف “منفتحة على تلبية احتياجات سورية الغذائية إذا تطلب الأمر”. وجاء تصريح وزير الزراعة الأوكراني بعد موقف رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي، وإعلانه تزويد سورية بالحبوب ومنتجات زراعية أخرى على أساس إنساني، بعد أسبوع على سقوط نظام الأسد. وقال في خطابه اليومي: “الآن يمكننا مساعدة السوريين بقمحنا ودقيقنا وزيتنا: منتجاتنا التي تستخدم عالمياً لضمان الأمن الغذائي”. وأضاف زيلينسكي: “ننسق مع شركائنا والجانب السوري لحل القضايا اللوجستية. وسندعم هذه المنطقة حتى يصبح الاستقرار هناك أساساً لحركتنا نحو سلام حقيقي”.

وأوضح أن الشحنات المحتملة ستكون ضمن برنامج “حبوب أوكرانيا” الذي بدأ عام 2022 لتقديم المساعدات الغذائية إلى البلدان الأكثر احتياجاً. وتعتبر أوكرانيا منتجاً ومصدّراً عالمياً للحبوب والبذور الزيتية، وكانت كييف تنتج، قبل الحرب الروسية الأوكرانية، نحو 433 مليون طن سنوياً.
وتتوالى تصريحات الدول لتدارك أي نقص غذائي كانت حكومة الأسد تعتمد على روسيا في تأمينه، رغم أن موسكو لم تعلن بشكل رسمي وقف التصدير، أو معاداة حكومة سورية الجديدة.
يؤكد رئيس اتحاد مصدري ومنتجي الحبوب في روسيا، إدوارد زيرنين، أن المصدرين الروس لا يعتزمون تقليص التزاماتهم تجاه العقود المبرمة مع سورية بشكل أحادي. وأضاف في تصريح لوكالة الأنباء الروسية “ريا نوفوستي”، قبل يومين، أن الاتحاد منفتح على استقبال عروض جديدة للتوريد. وحول الدفع الذي كان يقايضه نظام الأسد برهن الثروات لروسيا (مرفأ طرطوس، شركة السماد، حقول النفط، مصادر الفوسفات) يشير زيرنين إلى أن مسألة الدفع وتسوية أي ديون محتملة عن المنتجات الموردة ستعالج بشكل عملي. ورغم أن سورية ليست من أكبر مستهلكي القمح الروسي، لعبت موسكو دوراً محورياً في إمدادها بالقمح.
ويعقب الاقتصادي السوري، أسامة القاضي، أن روسيا تحرص على الحفاظ على علاقاتها مع سورية، وربما تُوسّط دولاً إقليمية لإبقاء بعض نفوذها بالبحر المتوسط، أو تحل قضايا الديون والاتفاقات التي وقعتها مع نظام الأسد منذ عام 2016. كما أنّ دولاً أخرى منتجة للقمح وغيره، ستمد اليد لسورية الجديدة، طبعاً إن حققت مطالب الجوار والقوى العالمية، ونجحت بإدارة البلاد والمرحلة، وأسست لدولة ديمقراطية للجميع، حسب القاضي.
ويعيش أكثر من ربع السوريين في فقر مدقع، وفق ما أفاد به البنك الدولي، بعد 13 عاماً من نزاع مدمر، أدى إلى أزمات اقتصادية متلاحقة، وجعل ملايين السكان عاجزين عن تأمين احتياجاتهم الرئيسية. وقال البنك الدولي، الذي نشر تقريرين عن سورية في مايو/ أيار الماضي: “أدى أكثر من عقد من النزاع إلى تدهور كبير في رفاه الأسر السورية”، مشيراً إلى أنّ 27% من السوريين، أي نحو 5.7 ملايين نسمة، يعيشون في فقر مدقع.
وأضاف: “رغم عدم وجود الفقر المدقع فعلياً قبل اندلاع الصراع، فإنه لحق بأكثر من واحد من كلّ 4 سوريين عام 2022، وربما زاد حدة وشدة بسبب الآثار المدمرة لزلزال فبراير/شباط 2023” الذي أودى بنحو 6 آلاف شخص في عموم سورية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى