رأي

انتخابات شمال شرق سوريةا… العنف وغياب الديمقراطية

كتب شفان إبراهيم, في “العربي الجديد” :

تستمرّ الترتيبات الإدارية والدعائية لإجراء انتخابات البلديات في عموم شمال شرق سورية في 11 يونيو/ حزيران الحالي، وعددها 121 بلدية، موزّعة على المقاطعات السبع التي أعلنها العقد الاجتماعي الذي أعلنته “الإدارة الذاتية” نهاية العام الماضي، وهي الأولى من نوعها في الرقّة ودير الزور وباقي المناطق العربية التي سيطرت عليها “الإدارة الذاتية” منذ القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ووفقاً لقانون الانتخابات، يبلغ عدد سكّان كل منطقة عشرة آلاف نسمة يحقّ لها الحصول على بلدية خاصة بها.

مُسلسل الدعاية الانتخابية مستمرٌّ بوتيرة تصاعدية، وكأن الأمور استقامت إلى درجة الخوض في “ترف” الانتخابات، رغم كونها عصب الديمقراطيات وأهم وسائل التعبير عن إرادة الشعب، وتأتي أهميتها نظراً إلى حجم الاستعصاء والفشل الذريع على مستوى الخدمات، بل إن إجراء الانتخابات في عموم المفاصل والسلطات أمر حتمي ولا بد منه، لكن حجم المصاعب والمشكلات التي تسبق الانتخابات يجعل من المُتابع أو المشتغل في الشأن العام يحار في توصيف الحالة التي وصلت إليها الأوضاع في شمال شرق سورية، حيث الموارد والفرص، المهدرة، التي أُتيحت لنقل تلك المناطق صوب بدايات الاستقرار، وإنْ كان مؤقتاً إلى حين إيجاد تسوية سياسية عامة لسورية، لكون الجُزء لا يصل إلى الاستقرار النهائي من دون الكُل العام. فضلاً عن كمية الخلافات ونوعيتها مع دول الجوار، والوسط السوري، والعمق الكردي، ومناطق التوترات في دير الزور على سبيل المثال، في مقابل التحدّيات والتهديدات التي تُحيط بتجربة “الإدارة الذاتية”. وإن كان من المُمكن للكُتل السياسية، أو الدول الفاعلة في الشأن السوري، اتّباع الصبر الاستراتيجي في قضايا الحوكمة والتشبيك بين الإدارات، ونوعية العمل الإداري في المنطقة، لكن قضايا تُعاكس القرارات الدولية تدخل في حيّز اتخاذ الموقف المُباشر، وهو ما بدا واضحاً من غالبية الأطراف، بدءاً من وزارة الخارجية الأميركية التي شكّكت في توافر الشروط والظروف الملائمة لإجراء الانتخابات، والتي ربطت إجراء أيّ عملية انتخابية نزيهة وشفّافة بقرار مجلس الأمن رقم 2254 ، مروراً بالائتلاف السوري المعارض، ووصولاً إلى المجلس الوطني الكردي والمنظمة الأثورية الديمقراطية، اللذين يُعتبران أبرز الكُتل والأطراف السياسية خارج “الإدارة الذاتية”، فضلاً عن نفور القواعد الاجتماعية من قرارات “الإدارة الذاتية”، وخصوصاً تسعيرة شراء كيلو القمح بـ31 سنتاً فقط. ورُبما يُشكل حجم الاعتراض على القرار مؤشّراً على حجم المشاركة الشعبية في الانتخابات ونوعيّتها، لكن الرفض الأخطر جاء من “الجارة” تركيا التي أعلنت، بشكل صريح، المعارضة التامة لأي عملية انتخابية تشرف عليها “الإدارة الذاتية”، بل هدّدت بشنّ عملية عسكرية، في حال إجراء الانتخابات. إضافة إلى مطالب زعيم حزب الحركة القومية التركي، دولت بهشلي، وهو حليف سياسي لحزب العدالة والتنمية التركي، بالقيام بعملية عسكرية مشتركة تجمع تركيا وسورية “للقضاء” على الإدارة الذاتية.

إحدى مشكلات الانتخابات في مناطق الإدارة الذاتية أنها لن تتحوّل إلى مؤشّر على التحوّل الديمقراطي أو ميزان فرز القوى والأحجام والتمثيل الشعبي؛ في ظل المقاطعات الكثيرة لها

سيولة المخاطر التي تعترض طريق الانتخابات، والتهديدات الجدّية على المنطقة، أكثر من محفّزات إجرائها، في ظل الفقر والانغلاق شبه التام لمستقبل المنطقة، وانعدام أيّ بارقة أمل أو مُستقبل. إضافة إلى أنّ نوعية (وعدد) الكتل السياسية المشاركة أو المقاطعة، هي التي ستحدّد الأدوار التقليدية التي ستؤدّيها نتائج فرز الانتخابات، وخصوصاً مشاركة المواطنين في المناطق التي سبق أن شهدت تشنّجاتٍ كثيرة بين القواعد الاجتماعية والإدارة الذاتية. في المقابل، سيعني الإحجام عن المشاركة في التصويت الوصول إلى النتائج المحسومة حتّى قبل عملية الاقتراع والفرز، وستبقى الكتل السياسية الفائزة هي نفسها، وإن تغيرت بعض الوجوه، أو ربما نجد تبدّلات في المواقع وتبادل الأدوار، وتشكّل كل تلك العراقيل إضعافاً للعملية الانتخابية.

المشكلة الأخرى في هذه الانتخابات أنها لن تتحوّل إلى مؤشّر على التحوّل الديمقراطي أو ميزان فرز القوى والأحجام والتمثيل الشعبي؛ في ظل المقاطعات الكثيرة لها، وتالياً لن تتحوّل إلى مؤشّرات للاستقرار وحجم الرضى الشعبي، وربما لن تكون المخاوف من عمليات التزوير أو استخدام الحزب الحاكم الإدارة الذاتية لدوائر القرار التي يتحكّم بها داخل كامل المنظومة السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية والإدارية، في دعم حملاته الانتخابية والفرز والنتائج، هو السبب الوحيد أو المركزي في قرار المقاطعة، إذ سبق أن اتفقت الأطراف الكردية على إعادة هيكلة الإدارة الذاتية، وضمّ المكونات، وبعد الانتهاء من كامل العملية ومشاركة الجميع بشكل حقيقي وفعلي في كل مفاصل الإدارة، يتم التوجّه صوب إجراء انتخابات متعدّدة.

ولعل أبرز ورقة ضغط يستغلها المجلس الكردي ما ترتكبه أطراف محسوبة مقرّبة من دوائر صناعة القرار للإدارة الذاتية، وتوجّهها إلى اتباع سلوكيات عنفية وممارسة الانتهاكات ضد أحزاب المجلس الكردي، من اعتقالات وخطف وحرق مقار حزبية؛ كواحدة من أدوات إدارة الصراع السياسي معها، وهو ما يُحسِن المجلس الكردي استغلاله جيداً، والتمسّك بتلك الورقة وجعلها أحد الأسباب الكافية للمقاطعة، علماً أن تلك الطريقة في إدارة الصراع ضربة للإدارة الذاتية نفسها، التي تُعلن، في مرّاتٍ كثيرة، عدم علمها بما يجري والتنصّل من المسؤولية، وتالياً فإن جعل نتائج الانتخابات ورقة شرعية وسلمية في فضّ النزاع والاشتباك السياسي بين الطرفين، يتحوّل إلى ثانوي أو هشّ وغير مُجدٍ.

حجم المصاعب والمشكلات التي تسبق الانتخابات يجعل من المُتابع يحار في توصيف الحالة التي وصلت إليها الأوضاع في شمال شرق سورية

أمام ذلك كله، ما العمل؟ هل التأجيل هو الحل، أم عدم الاكتراث بكل التهديدات من عسكرية، ومقاطعة شعبية، وضغوط أميركية، ومساعي الحكومة السورية نفسها، لتأجيج الوضع بين الإدارة الذاتية وتركيا، لإضعاف الأولى من جهة، ورُبما دفع الثانية إلى طلب أيّ نوع من التواصل أو العلاقات من جهة ثانية؟ وهل ستأتي الانتخابات بالممارسات الجديدة على الصعيد الخدمي، في ظل استمرار التهديدات، وإصرار “الإدارة الذاتية” على شحّ مواردها المالية، وهي بطبيعة الحال غير مُلزمة للقواعد الاجتماعية بالتصديق؛ لطالما لا تعليل ولا شرح واضحاً للمداخيل الاقتصادية للبلاد. كذلك، لا تتوقّف القضية على مشاركة المجلس الكردي أو مقاطعته، فعدا عن رفض باقي الأطراف ومقاطعتها، هل مشاركة الكتل السياسية في الداخل ستعني بداية نهاية المآسي والمخاطر؟ وهل سيعني أن الظروف السياسية ستصبح ملائمة، وأن مستقبل المنطقة تحوّل إلى الاستقرار الاستراتيجي تدريجياً؟ فالإدارة الذاتية تحمل تفاؤلاً خاصّاً بها، بغضّ النظر عن حقوق وشراكة ووجود باقي الأطراف. كذلك يحمل المجلس الكردي تشاؤماً واضحاً من هذه الانتخابات، وهو ما يقود إلى القول إن الحياة بكل تفاصيلها وتجلياتها في الشمال الشرقي دخلت مرحلة الاستعصاء شبه التام؛ وغالبية الأفكار والمشاريع تدور في حلقة مفرغة. وربما أحد الحلول الناجعة ولو مؤقتاً، يكمن في المشاركة الواسعة في الانتخابات، بعد إتمام خطوات الشراكة الحقيقية، وهي، بكل حال، ستكون خطوة جيدة، لكنها ليست المفتاح السحري، في ظل استمرار الصراع الأميركي الروسي على المنطقة.

ووفقاً لذلك كله، يُمكن القول إن الانتخابات المزمع خوضها تخصّ مكوّنات “الإدارة الذاتية” وحدها، فلماذا كل هذه المصاريف والجهد والمخاطر من تنفيذها، خصوصاً في غياب المنافسين أو المعارضة، وبالتالي، لا جديد يُذكر في النتائج، بل سيبقى الصراع السياسي والفكري في أوج قوته وتبقى طريقة إدارة هذا الصراع على حاله، وبالتالي لا مؤشرات على الانتقال أو التحول الديمقراطي. وربما كان من الحلول غير المكلفة وغير الخطيرة أو الصعبة حدوث تغيير في سلوك “الإدارة الذاتية” وأحزابها في تعاملها مع الأطراف المعارضة أو الرافضة سياساتهم، والكفّ عن تغييب الديمقراطية في إدارة عملية “التشفي” من الأطراف الأخرى. ولطالما أعلنت الإدارة الذاتية استقبالها للمراقبين الدوليين والمحليين، ولا أعلم هل حقيقة سيوجد مراقبون دوليون مُحكّمون ومعتمدون، أم هل سيكون المراقبون المحليون على قدر كافٍ من الجرأة للقول علانية بشأن كل ما سيشاهدونه أم لا؟

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى