كتب عمر كوش, في “العربي الجديد”:
يبدو أن عدوى صعود اليمين المُتطرّف الكاره للآخرين، وخاصّة المهاجرين، قد بلغت مستوىً غير مسبوق في المملكة المتحدة، حيث اجتاحت موجة من المظاهرات العنصرية العنيفة شوارع وساحات أكثر من 35 بلدة ومدينة فيها، ونظّمتها جماعات من اليمين المُتطرّف الكاره للأجانب، وخاصّة المسلمين، وذلك بعد أن استغلت معلومات كاذبة ومضلِّلة حول المجرم أليكس روداكوبانا (17 عاماً)، الذي قام بقتل ثلاث طفلات في مدرسة رقص في بلدة ساوثبورت، في بداية الأسبوع الماضي. وحاولت منشورات في وسائط التواصل الاجتماعي تلفيق أسماء للقاتل، وتصويره مسلماً لاجئاً، حيث سرت شائعات تزعم أنّه أتى إلى بريطانيا على متن زورق صغير عبر القنال الإنكليزية. ولم تتوقّف تلك الافتراءات رغم أنّ الشرطة كشفت أنّه بريطاني ولد في مدينة كارديف، عاصمة إقليم ويلز، حيث قامت قوى اليمين المُتطرّف بتحشيد وتنظيم مظاهرات كثيرة، تحوّلت أعمالَ شغبٍ واضطرابات وهجمات، طاولت أماكن إيواء لطالبي اللجوء، إضافةً إلى تخريب ونهب ممتلكاتٍ ومهاجمة مساجدَ لمسلمين في كبريات المدن الإنكليزية، من لندن وليفربول وليدز ودونكاستر، وغيرها في شمال إنكلترا ووسطها، وامتدّت شرارتها لتصل إلى ويلز وأيرلندا الشمالية.
لم يُخفِ قادة اليمين المُتطرّف تزعّمهم ودعمهم للتظاهرات العنصرية
تعد هذه الموجة العنصرية هي الأعنف والأوسع التي تشهدها المملكة المتحدة، بالنظر إلى أنّها امتدّت طوال أربعة أيّام، وشملت أنحاء عديدة من المملكة، ودفعت رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى وصف المظاهرات، التي قام المُتطرّفون اليمينيون، بأنّها “ليست احتجاجات بل جرائم” في حقّ القانون، وتوعّد بوضع “حدّ لذلك نيابة عن الشعب البريطاني الذي يريد حماية قيمه وضمان أمنه”، واعتبر أنّ “بلطجية اختطفوا” حزن الأمة من أجل “نشر الكراهية”، مؤكّداً أنّ “أيّ شخص ارتكب أعمال عنف سيواجه بالقوة الكاملة للقانون”. أما وزيرة الداخلية إيفيت كوبر، فقد اعتبرت أنّ “بريطانيا بلد فخور ومتسامح، ولا ينبغي لأحد أن يبرّر الأعمال المشينة التي يقوم بها المشاغبون والبلطجية والجماعات المُتطرّفة، التي تهاجم أفراد الشرطة وتنهب المتاجر أو تهاجم الناس على أساس لون بشرتهم”. وشدّدت على أنّ “اليمين المُتطرّف يُظهر من هو، وعلينا أيضاً أن نظهر من نحن”، في إشارة إلى تصميم حكومة حزب العمّال البريطاني على وضع حدّ لسرطان اليمين المُتطرّف، الآخذ في الانتشار في بريطانيا.
لم يُخفِ قادة اليمين المُتطرّف، أمثال نايجل فراج وتومي روبنسون، تزعّمهم ودعمهم للتظاهرات العنصرية، بل إنّ روبنسون، الذي يتزعّم “رابطة الدفاع الإنكليزية”، التي أسسها قبل 15 سنة، سبق وأن أُطلِقَ سراحه بكفالة قبل فترة وجيزة، لكنّه هرب إلى خارج المملكة، وتولّى عمليات الحشد وتوجيه تعليماته ورسائل الكراهية عبر وسائل تواصل اجتماعي، إضافة إلى قيامه بشحذ همم أتباعه، وبدا وكأنه يدير تنظيماً أو عصابةً يمينيةً منظّمةً، فراح يعرض “تقديم مساعدة قانونية” لمُتطرّفين اعتُقِلوا خلال مسيرات الكراهية، وعرض فيلماً في شاشات عملاقة في أحد ميادين لندن، يتضمّن افتراءات، ويدّعي فيه أنّ طالباً سورياً هاجم فتيات في مدرسته، وذلك على الرغم من صدور أمر قضائي يحظر عليه تكرار ما أورده من ادّعاءات في الفيلم. أمّا النائب في البرلمان البريطاني، وزعيم حزب “ريفورم يوكي” (إصلاح المملكة المتحدة)، نايغل فراج، فلم يتوانَ عن تشجيع أعمال الكراهية ضدّ الأجانب، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مارك كوليت، زعيم منظمة “البديل الوطني” العنصرية.
رفع المتظاهرون العنصريون في بريطانيا شعارهم الشهير “أوقفوا الزوارق”، وراح بعضهم يُردّد أغنية “حكم بريطانيا”، وهي أغنية وطنية بريطانية، كما ردّدوا هتافات “إنكلترا حتّى أموت” و”نريد استعادة بلدنا”، وسوى ذلك. وإن كانت هذه المظاهرات قد اتُّخذت ذريعةً “للتعبير عن الكراهية”، حسبما قال ستارمر، إلّا أنّها تُشكّل تحديّاً كبيراً للتعايش والسلم الاجتماعيين في بريطانيا، وتُعبّر عن نزعة رفض وكراهية الآخر، تغذّيها أحزابٌ وتنظيماتٌ، وبعضها بات ممثّلاً في البرلمان البريطاني، مثل فاراج ولي أندرسون، فضلاً عن وزيرة الداخلية السابقة سويلا بريفرمان، التي أطلق عليها اسم “وزيرة الكراهية”، وسواها ممّن يتحكّم بهم الهيجان والحقد على الأجانب والمهاجرين، وخاصّة من العرب والمسلمين. والمؤسف هو أن بعض غُلاة اليمين المُتطرّف باتوا يتصدّرون المشهد السياسي البريطاني، على الرغم من أنّ ما يجمعهم يقوم على وشائج التجنّي والافتراء والعنصرية، لكنّ قادة المُتطرّفين يستغلّون الديمقراطية التمثيلية كي يصلوا إلى سُدّة الحكم على أسس من التطرّف والتحامل على الآخر، والأمر لم يعد يقتصر على بريطانيا وحدها، بل يشمل معظم دول أوروبا.
أثبتت أعمال الشغب أنّ المملكة المتحدة تواجه مشكلةَ صعود قوى اليمين المتطرف، بوصفها إحدى سمات لحظتها التاريخية
أثبتت مظاهرات وأعمال الشغب، التي قامت بها قوى اليمين المُتطرّف في بريطانيا، أنّ المملكة باتت تواجه مشكلةَ صعود هذه القوى، بوصفها إحدى سمات اللحظة التاريخية التي تعيشها، فانتعش خطابها، وإن اتّخذ طبعاتٍ وأشكالاً مختلفة، بداية من انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى بروز حركات وأحزاب يمينية مُتطرّفة وشعبويّة، تعادي الآخر والهجرة، وتدعو إلى وطنية ضيّقة، واستنسخت شعار دونالد ترامب الشهير (اجعلوا أميركا عظيمة من جديد)، وحوّلته “اجعلوا إنكلترا قويّة من جديد”. إضافة إلى أنّ قوى اليمين المُتطرّف في بريطانيا تعادي النُخَب السياسية الأخرى، وتعمل لتضييق المجال العام، ولا تطرح برامج واضحة، بل تحاول التلاعب بعقول عامّة الناس وعواطفهم، من خلال إثارة المخاوف والآمال، وترويج فِكَرِ وحلولٍ بسيطة للأزمات والمشكلات الداخلية والخارجية، لكن الخطير هو أنّ خطاب اليمين الشعبوي البريطاني بات يَلقى رواجاً متزايداً بين قطاعات شعبية واسعة، ولم يعد ينحصر في أشخاصٍ أو مجموعاتٍ صغيرةٍ تمثّل التطرّف من أمثال روبنسون وفاراج. في المقابل، لا يعدم الساحة السياسية البريطانية وجود رافضين ومناهضين لقوى اليمين المُتطرّف، ونزلوا إلى الشوارع والساحات في مختلف المدن والبلدات البريطانية مندّدين بموجات الكراهية، ومستنكرين أعمال اليمين المُتطرّف.