اليسار الفرنسي يدفع أثمان انقساماته
كتب محمد السعيد إدريس, في “الخليج” :
كشفت نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة التي شهدتها فرنسا يومي 30 يونيو/ حزيران و7 يوليو/ تموز الماضيين مدى عمق الأزمة السياسية التي تواجه فرنسا، وإلى أي مدى أضحى خلل التوازن في علاقات القوى السياسية المختلفة قوياً لدرجة باتت تهدد الاستقرار السياسي.
وإذا كانت هذه النتائج قد كشفت أن القرار السياسي انتقل من الإليزيه (الرئاسة الفرنسية) إلى الجمعية الوطنية (البرلمان) وأن الرئيس الفرنسي لم يعد صاحب القرار السياسي الفعلي في نظام سياسي رئاسي، فإن الجمعية الوطنية تواجه انقسامات حادة بين ثلاث كتل سياسية لا تملك أي منها الأغلبية التي تمكنها من تشكيل الحكومة، والحفاظ على استمراريتها أمام أي دعوة لحجب الثقة عنها. والكتل الثلاث هي: اليسار الذي يحتل المرتبة الأولى ثم الوسط ويمين الوسط الذي يمثل الرئيس الفرنسي ثم اليمين (حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف) لم يحصل على الأغلبية المطلوبة (289 نائباً في البرلمان) التي تمكنه من تشكيل الحكومة والحفاظ على الاستقرار السياسي.
ومن بين هذه الكتل الثلاث يواجه اليسار الفرنسي الذي شكل «الجبهة الشعبية الجديدة» لخوض الانتخابات، والذي حقق المرتبة الأولى في النتائج التي تعطيه أولوية تشكيل الحكومة الجديدة أسوأ أزماته، بل ربما تكون أزمته الراهنة هي أزمته التاريخية لفشله في أن يحافظ على تماسكه، وأن يجد حلولاً لصراعاته الداخلية، التي لم تمكنه من التوافق على شخصية تتولى رئاسة الحكومة، وامتلاك الوسائل لفرضها على رئيس الجمهورية، الأمر الذي مكن الرئيس من تجاوز هذا اليسار وتعيين رئيس للحكومة ينتمي إلى تيار يمين الوسط هو ميشال بارنييه الذي تولى سابقاً حقيبة الخارجية، وكان كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا بشأن مغادرتها للاتحاد (بريكست)، متجاوزاً ما تسميه جبهة اليسار للإرادة الشعبية وقيامه بتزييف هذه الإرادة.
رد فعل أحزاب جبهة اليسار على تجاوزها في تسمية رئيس الحكومة الجديد من جانب الرئيس ماكرون جاء معبراً عن أزمتها، إذ إنها كما لم تتحد فيما بينها على تسمية مرشح توافقي لرئاسة الحكومة، لم تتوافق أيضاً على ردود فعلها لمواجهة رئيس الجمهورية حيث كشفت التنافسات الداخلية عن ميول للحزب الاشتراكي وزعيمه أوليفيه فور للتقارب مع الرئيس ماكرون وعن عداء للأحزاب الثلاثة: الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب الخضر للمشروع السياسي لحزب فرنسا الأبية ورفض تمكين زعيم هذا الحزب جان لوك ميلونشون من تحقيق طموحه التاريخي في تولي رئاسة الحكومة، أو حتى تمكينه من تسمية مرشح من جانبه لتولي هذا المنصب رغم أنه صاحب الكتلة الأكبر من النواب داخل جبهة اليسار.
وعبرت مارين تونديلييه زعيمة حزب الخضر الشريك في جبهة اليسار عن أسباب الانقسام داخل الجبهة بقولها إن «الجميع يزعمون أنهم المجموعة الكبرى».
وأمام هذه الحال من العجز وعدم التوافق داخل جبهة اليسار قرر حزب فرنسا الأبية الراديكالي العودة مجدداً إلى الاحتكام للشارع الفرنسي الذي يتهم جزء كبير منه الرئيس ماكرون بخيانة الإرادة الشعبية وتجاوزها، وتسيير تظاهرات غاضبة في معظم أنحاء فرنسا السبت (7/9/2024) للاحتجاج على تعيين بارنييه رئيساً للحكومة و«التنديد باستيلاء ماكرون على السلطة»، لكن الإجراء الأهم كان تزعم حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي وزعيمه جان لوك ميلونشون دعوة «عزل الرئيس ماكرون» من منصبه كرئيس للجمهورية بإعلانه تفعيل المادة 68 من الدستور التي تنص على عزل الرئيس، ودعا ميلونشون الشارع والقوى السياسية والمجتمعية للتحرك ضد قرارات الرئيس.
هذا الموقف السياسي تحول إلى إجراء فعلي داخل الجمعية الوطنية (البرلمان) عندما اتخذ حزب فرنسا الأبية (الثلاثاء 17/9/2024) خطوة أولى في الجمعية الوطنية بتقديم عريضة وقع عليها 72 نائباً من الحزب بالإضافة إلى نحو عشرة نواب آخرين من الشيوعيين والخضر، من دون مشاركة الحزب الاشتراكي الفرنسي، إلى مكتب الجمعية الوطنية الذي يعد أعلى هيئة تنفيذية، الذي أحالها بدوره إلى «لجنة القوانين» التابعة له.
هذا التحرك الذي كشف عن انقسام جبهة اليسار ينظر إليه على أنه «تحرك انفعالي» لن يحقق إلا المزيد من الفشل وتعميق أزمة اليسار لسببين: أولهما أن عزل الرئيس يتطلب ثلثي أعضاء البرلمان وجبهة اليسار مجتمعة لم تحقق نصف عدد نواب البرلمان، وثانيهما تأمين الرئيس ماكرون نفسه بكتلته البرلمانية وبتحالف غير معلن مع حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبان الذي قدم موافقته الضمنية على تعيين بارنييه بشروطه التي عبّر عنها رئيسه جوردان بارديلا.
فشل مسعى عزل ماكرون، كما هو متوقع، من شأنه أن يعمق انقسامات اليسار لكنه سيعرض أيضاً مصداقيته الشعبية للخطر التي سيكون المستفيد الأول منها حزب التجمع الوطني اليميني الراديكالي الذي أعلنت زعيمته مارين لوبان عزمها الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة العام المقبل لحل الأزمة السياسية الفرنسية، حيث تطمح أن تكون نتائجها لصالح تيار اليمين المتطرف الذي أخذ يجتاح فرنسا كغيرها من الدول الأوروبية.