الوساطة التركية بين السودان والإمارات.. مبادرة أم مبادلة؟

كتب محمد حسب الرسول في صحيفة الميادين.
جاءت “المبادرة” التركية في وقت تمر تركيا في أزمات داخلية، سياسية واقتصادية، ودفعت تلك الأزمات النظام التركي إلى انتهاج سياسة خارجية جديدة، تعزز دوره الإقليمي، من أجل بيع ثماره في “السوق الأطلسية”.
في اتصال هاتفي، منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، أجراه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، برئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، عرض الأول وساطة بين السودان والإمارات، وأبدى البرهان موافقة مبدئية عليها.
وفي مطلع الأسبوع الماضي، تسلم الأخير رسالة من الأول، سلمها إليه مبعوث رئاسي، هو نائب وزير الخارجية التركي، دوران برهان.
تضمنت الرسالة محاور مبادرة الوساطة التركية، والتي تهدف إلى تحسين العلاقات السودانية الإماراتية التي ساءت بعد نشوب الحرب الدائرة في السودان، منذ منتصف نيسان/أبريل 2023، والتي اتهمت الحكومة السودانية حكومة أبو ظبي بالوقوف خلفها، من خلال توفير الرعاية السياسية لميليشيا الدعم السريع، فضلاً عن دعمها بالسلاح والعتاد العسكري والمال.
بلورت الحكومة السودانية هذه الاتهامات في شكوى قدّمتها إلى مجلس الأمن الدولي، تأسست على اتهام الإمارات بتوفير ذلك الدعم للميليشيا، واستندت إلى تقارير استخبارية ودبلوماسية، وتقارير اللجنة التي شكلها مجلس الأمن الدولي، في الـ29 من آذار/مارس 2005، لمراقبة منع تدفق السلاح إلى دارفور، والتي ظلت تعمل، منذ تاريخ إنشائها حتى الآن، وقدمت إلى المجلس وثائق تعزز هذا الاتهام.
وبحسب ما تسرّب إلى الإعلام، فإن المبادرة التركية تقوم على ما يلي:-
1) سحب السودان شكواه ضد الإمارات من مجلس الأمن الدولي.
2) ضمان استمرار الاستثمارات الإمارتية القائمة في السودان، ومراجعة الاتفاقيات السابقة الخاصة بها، واستكشاف فرص استثمار جديـدة.
3) دفع الاستثمار الإماراتي في مجال إعادة الإعمار والبنية التحتية عبر طرائق تعود بالنفع على الجانبين.
4) تُصدر الحكومة السودانية عفواً عاماً، يشمل المنتسبين إلى الدعم السريع، الذين شاركوا في هذه الحرب.
5) المحافظة النـسبية على “قـوات الدعم الـسريـع”، ودمج العناصر الراغبة منها في القوات النظامية بمساعدة القوات الإماراتـيــة والـتـركـيـــة.
6) ضمان تمثيل المدنيين في تحالف الحرية والتغيير/تقدم بقيادة عبد الله حمدوك، في العملية السياسية، وفي دوائر اتخاذ القرار السياسي.
7) تلتزم الإمارات التوقف عن دعم أي مجموعات مسلحة خارج إطار الـدولة السودانية.
8) التنظيم والمراقبة والتنظيم لتجارة السلاح وتحركه من دول الجوار.
جاءت “المبادرة” التركية في وقت تمر تركيا في أزمات داخلية، سياسية واقتصادية، ودفعت تلك الأزمات النظام التركي إلى انتهاج سياسة خارجية جديدة، تعزز دوره الإقليمي، من أجل بيع ثماره في “السوق الأطلسية”، أو ليُقبض ثمنه داخلياً في المسرح التركي.
وفي هذا السياق، كانت المصالحة التركية الإماراتية، بعد تدهور العلاقات بين الدولتين، في إثر الانقلاب العسكري، الذي جرى في تموز/يوليو 2016، والذي اتُّهمت الإمارات بالوقوف خلفه. ولهذه المصالحة نتائج داخل تركيا وخارجها.
اتخذت المصالحة بين البلدين بُعدين، سياسياً واقتصادياً. في البعد السياسي تطورت العلاقات بينهما، وخاطبت هواجس تركيا، التي صنعها الانقلاب العسكري.
وقفزت على حادثة الانقلاب بالتنسيق بين أنقرة وأبي ظبي في القضايا الإقليمية. وهذا الذي يفسر حالات الهدوء بين شرقي ليبيا، الواقع تحت النفوذ الإماراتي، وغربيّها، الواقع تحت النفوذ التركي، ويعضد ذلك تقارب مواقف البلدين في منطقة القرن الأفريقي، وخصوصاً تعاونهما في إثيوبيا، وفي إنقاذ نظام آبي أحمد من السقوط في أيدي التغراي. وتجلّى التقارب في مواقف البلدين بشأن ما يجري في فلسطين ولبنان والسودان.
في البعد الاقتصادي، أبرم البلدان اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة في شهر تموز/يوليو 2023، هدفت إلى رفع حجم التبادل التجاري من 7.6 مليارات إلى 40 مليار دولار. وأنشأت الإمارات صندوقاً استثمارياً في تركيا قيمته 10 مليارات دولار، وأعلنت اتفاقاً لتبادل العملات بنحو 5 مليارات دولار لتعزيز احتياطيات البنك المركزي التركي، وفتحت أبواب السياحة والاستثمار لمواطنيها في تركيا، وخصوصاً في مجالات التكنولوجيا والعلامات التجارية، ومنصات التجارة الإلكترونية، وفي مجال الصناعات العسكرية، وفي مجال الموانئ والخدمات اللوجستية. وهذا الأمر جعل الإمارات أكبر شريك اقتصادي لتركيا في الخليج.
وتجيء المبادرة التركية بعد تمكن تركيا من إدارة حوار بين إثيوبيا – الدولة الحبيسة – والصومال، نتج منه توافق خاطب مطامع الأولى في الوصول إلى الساحل الصومالي لإقامة ميناء تجاري يضم قاعدة عسكرية بمساعدة فرنسية مدعومة من حلف الأطلسي، في وقت يشهد البحران العربي والأحمر صراعاً نوعياً بسبب قيام اليمن بفرض قواعد مرور جديدة على هذين البحرين، تهدف إلى ضرب حصار على “إسرائيل” في سياق إسناد يمني لغزة، وهي تواجه العدوان الصهيوني المستمر منذ 15 شهراً.
كما تجيء “المبادرة” بعد التغيير الذي حدث في سوريا، في الـ8 من كانون الأول/ديسمبر 2024، والذي قادته تركيا بالتنسيق، دولياً وإقليمياً، ومن خلال توظيف الجماعات، التي يقودها أبو محمد الجولاني، والذي لم يجد قبولاً من بعض دول الإقليم، وبينها دولة الإمارات.
على الصعيد الداخلي في السودان، جاء طرح هذه “المبادرة” في الوقت الذي تشير وقائع الميدان ومعطياته إلى تقدم نوعي كبير حققه الجيش والمقاومة الشعبية والقوات المشتركة في جميع مسارح العمليات، وكان آخرها التقدم الذي تحقّق في ولايات سنار والخرطوم وشمالي دارفور والجزيرة، الأمر الذي أضعف ميليشيا الدعم السريع، وأفقدها المبادرة والقدرة على المحافظة على المواقع الاستراتيجية التي احتلتها في بعض أنحاء السودان، الأمر الذي حرمها من تحقيق أهدافها التوسعية نحو الحدود مع دولتي إثيوبيا وجنوب السودان، وشرقاً نحو البحر الأحمر، وشمالاً للسيطرة على المناطق الواقعة على نهر النيل لاستكمال عمليات طرد السكان الأصليين، وإكمال عمليات توطين المستوطنين، ليتحقق هدفها الاستراتيجي، متمثلاً بالتغيير الديموغرافي الضروري لصناعة حاضر ومستقبل جديدين للسودان.
أحدثت هذه “المبادرة” اضطراباً في الموقف الرسمي، إذ جدد رئيس مجلس السيادة إعلان قبوله إياها، لدى لقائه مبعوث الرئيس التركي، لكنها قوبلت بالرفض من نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، أعلنه في خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى الـ69 لاستقلال السودان، ورفضها نائب القائد العام للجيش، عضو مجلس السيادة، الفريق شمس الدين كباشي، من مدينة مدني، بعد ساعات من تحريرها. وعبّرت المواقف الرافضة لهذه “المبادرة” عن انقسام واضح داخل مجلس السيادة.
ومثلما كان الرأي الغالب في مجلس السيادة رافضاً لهذه “المبادرة”، فإن أغلبية الرأي العام السوداني عبّرت عن رفضها لها، وصنع ذلك اصطفافاً جديداً في المشهد السوداني يقف فيه معظم السودانيين في موقع الرفض لها، بينما تقف الإمارات وشركاؤها في السودان في موقف الترحيب بها.
تعود أسباب رفض “المبادرة” إلى الطبيعة “الملغومة” وإلى توقيتها، الذي سبقت الاشارة إليه، وإلى بنودها ومحاورها، فهي، في مجملها، أشبه ما تكون بشروط المنتصر الذي يفرض على خصمه الإذعان. أما بشأن التفصيل، فيلاحَظ عليها ما يلي:
– أن البنود الستة الأولى من “المبادرة” تخدم، بصورة مباشرة، أهداف نظام الإمارات، فالبند الأول يحرم السودان من حقوقه القانونية في ملاحقة أبو ظبي، ومن تحميلها المسؤولية القانونية والسياسية لهذه الحرب، التي كادت تكمل عامها الثاني، ودخلت كل بيت سوداني، وأفقرت السودانيين، ودمّرت بُنى دولتهم التحتية، وحرمتهم من أملاكهم وممتلكاتهم، ومن الأمن والاستقرار، ومن التمتع بحياة طبيعية تتوافر فيها الخدمات الأساسية، وأضاعت على الشعب وقتاً ثميناً من حياته وتاريخه. وفي الوقت ذاته، يمنح البند الأول حصانة للإمارات تمكّنها من الإفلات من المترتبات القانونية والسياسية لدورها في هذه الحرب، والذي تضمنته اتهامات الحكومة السودانية وشكواها.
– يضمن البندان الثاني والثالث من “المبادرة” المصالح الإماراتية التي سبقت الحرب، والمصالح الجديدة التي حرصت على تحقيقها. وهذا الذي تمت الإشارة إليه في عبارة “استكشاف فرص استثمار جديـدة”، وعبارة “دفع الاستثمار الإماراتي في مجال إعادة الإعمار والبنية التحتية”. وهذا يفتح الأبواب أمام استحواذ فرص إعادة الإعمار والفرص الاستثمارية ذات الطابع الاستراتيجي لدولة متهَمة بالوقوف خلف هذه الحرب المدمرة.
– يمنح البند الرابع من “المبادرة” حصانة للمنتسبين إلى ميليشيا الدعم السريع، ويحصنهم من المساءلة القانونية عن الجرائم التي ارتكبوها، ويضمن إفلاتهم من العقاب، ويهدر الحقوق العامة والخاصة، ويحول ذلك دون تحقيق العدالة والردع العام، ويشجع أيضاً على تكرار تلك الجرائم مستقبلاً.
– يضمن البند الخامس بقاء الميليشيا، كما يضمن لها حضوراً داخل المؤسسة العسكرية، بكل ما يحمله ذلك من مخاطر. ويفتح هذا البند أبواباً لتدخل الإمارات وتركيا في شؤون المؤسسة العسكرية.
– يهدف البند السادس إلى إعادة الجناح السياسي للميليشيا – تحالف الحرية والتغيير/تقدم – إلى المشهد السياسي وإلى دائرة اتخاذ القرار، ويحقق ذلك هدفاً محورياً للمشروع الخارجي، الهادف إلى الهيمنة على السودان، عبر تمكين مكون سياسي سوداني من مقاليد الأمور في البلاد.
– أما البند السابع، فتمت صياغته بطريقة خادعة، تُظهر التزاماً إماراتياً يمثّل مقابلاً وثمناً للبنود الستة التي سبقته. وينصّ البند على التزام الإمارات التوقف عن دعم أي مجموعات مسلحة خارج إطار الـدولة السودانية، وبكل تأكيد لن ينطلي فخ عبارة “التوقف عن دعم أي مجموعات مسلحة خارج إطار الـدولة السودانية” على فطنة السودانيين، إذ يسمح النص – إذا قُرئ بصورة صحيحة – بإمكان استمرار الدعم الإماراتي للميليشيا بوصفها “جزءاً من مؤسسات الدولة السودانية”. وهنا ينتفي مضمون الالتزام وجوهره.
– أما البند الثامن، فصِيغَ هو الآخر بطريقة يشوبها الغموض والإبهام، إذ لم يحدد النص آليات مراقبة منع دخول السلاح إلى الميليشيا، وطرقها، ودور الإمارات وتركيا في ذلك. وبالتالي، لا يمكن النظر إلى هذا البند بصيغته هذه على نحو يُطمئن إلى وقف تدفق السلاح إلى الميليشيا من دول جوار السودان، التي فتحت حدودها لهذا الغرض على مدى عشرين شهراً.
إن “المبادرة” التركية بهذه البنود تطرح أسئلة، أهمها: من الذي صاغ هذه المبادرة، تركيا أم الإمارات؟ وإذا صاغتها تركيا، فهل صدرت عن تركيا، الدولة التي تحكمها المبادئ أم المصالح، وهل صدرت عن تركيا الدولة المسلمة التي ينتظر أن ترعى قيم العدل والحق والإنصاف، أم صدرت عن تركيا الأطلسية، التي ترعى مصالح الحلف الأطلسي، والتي تتهم الإمارات برعايتها في أفريقيا والشرق الأوسط قبل وبعد اتفاق الشراكة الاستراتيجية الموقعة بينها وبين أميركا من البيت الأبيض، في التاسع والعشرين من أيلول/سبتمبر 2023.
ويبقى السؤال الأخير بشأن كُنه هذه المبادرة، أهي مبادرة أم مبادلة، تسعى من خلالها تركيا لمقايضة القضية السودانية بمصالح في سوريا ومناطق تداخل المصالح التركية الإماراتية في مناطق أخرى؟